ارشيف من : 2005-2008

نظرة شاملة للبنان والمنطقة

نظرة شاملة للبنان والمنطقة

كيف يمكن لنا قراءة المرحلة المقبلة وتحديد الوجهة التي يمكن أن تتخذها الأمور، ومن هي الجهة أو الجهات التي يقع

على عاتقها حسم هذه الوجهة أو تلك، وبالتالي تحمل مسؤولية ما قد يجري؟‏

إن طرح هذه التساؤلات يتجاوز المبررات المنهجية إلى محاولة صياغة رؤية واضحة لما نحن فيه، ولما يمكن أن نؤول اليه.. دعونا نبتدىء من الحرب الاميركية ـ الاسرائيلية على لبنان عموماً وحزب الله والمقاومة وحلفائهما تحديداً، من نافل القول ان نقاشاً مصطنعاً جرى زج الوضع الداخلي فيه حول من كتبت له الغلبة في الحرب، وأهرق فريق السلطة في لبنان حبراً كثيراً لتأكيد أن التحالف الاميركي ـ الاسرائيلي هو الذي ربح الحرب وهو معه أيضاً، ثم ليعود لاحقاً ليقر بشيء من الشراكة للمقاومة في تقليص ما أمكن تقليصه من الخسارة، التي تمثلت بالتعديلات التي أدخلت على القرار 1701 في نسخته الاميركية الفرنسية الأولى. وبعد أن مرّ وقت طويل عاد من عاد ليكتشف من فريق السلطة أن "اسرائيل" عدو، وأن المقاومة حققت بطولات خارقة.. خلاصة القول هنا بمعزل عن الأسباب الموجبة، وهي بالمناسبة متعددة، التي دفعت فريقاً أساسياً في السلطة إلى إجراء تعديل في خطابه السياسي، أن هناك اقرارا ولو ملتوياً وموارباً بأن المقاومة خرجت منتصرة، وهذه الحقيقة هي التي وجهت مجمل السلوك الاميركي في لبنان، حيث كان التشديد على ضرورة منع ترتيب أي نتائج ميدانية أو سياسية على هذه الحقيقة.. ولذا جاء التعميم والقرار الاميركيان بضرورة الإسراع في تغيير البيئة الأساسية التي وُجد فيها حزب الله من خلال الانتشار الكثيف أولاً لقوات اليونيفيل والجيش اللبناني ـ الذي لا يشك أحد في وطنيته ـ وثانياً من خلال فرض قواعد اشتباك لعمل قوات اليونيفل تخولها عملياً الانتقال من العمل تحت البند السادس إلى العمل تحت البند السابع للأمم المتحدة، كل ذلك لتكبيل حركة المقاومة وفتح امكانات تغيير في مواقف الحاضنة الجماهيرية للمقاومة بعيداً عنها، ومن خلال الاستفادة من تداعيات وآثار الحرب الاجتماعية والاقتصادية التي أصابت بشكل جوهري الحاضنة الشعبية المباشرة للمقاومة. كما جرى التشديد على ضرورة إقفال أي مسعى سياسي يقوده حزب الله داخلياً لإحداث تغيير حكومي يكون أكثر انسجاماً مع متطلبات المرحلة، وأكثر انعكاساً للتوازن الوطني، وبما يخرج الوضع الحكومي الحالي من موقع استئثار فئة بالسلطة، وتحولها إلى مجرد معبر للإرادة الاميركية في وجه غالبية شعبية وسياسية كبيرة.‏

هذه هي الأهداف الجوهرية التي يُعمل عليها حالياً من قبل تحالف فريق السلطة مع التحالف الاميركي ـ الاسرائيلي، وكل ما عدا ذلك وما يثار من محاولة لتصوير مطلب تغيير الحكومة بوصفه سعياً غير مباشر لإسقاط مسألة المحكمة الدولية او تعطيل آلية عمل السلطة وغيرها من الأمور، ليس إلا من قبيل ذر الرماد في العيون للتغطية على الدوافع الحقيقية لرفض إحداث تغيير حكومي.‏

والخطورة الأبرز هنا ان هؤلاء نتيجة لجشعهم السلطوي الاحتكاري، لا يمانعون الزج بالمقامات والمراجع الروحية في اللعبة السياسية الداخلية، وبالتالي نكء العصبيات المذهبية وإشاعة مناخات من الاحتقان المذهبي والطائفي، ووضع البلد برمته على حدود الصراعات المذهبية والطائفية. وما هذه الوسائل الا تعبير واضح عن العجز السياسي لفريق السلطة، وعن شعوره بالقلق والارتباك، ما يجعله يلجأ الى الخطوط الدفاعية الأخيرة عسى أن تحميه أو تشتري له المزيد من الوقت للبقاء أطول فترة ممكنة في الحكم، ولإنجاز ما يمكن إنجازه قبل لحظة مواجهة الحقيقة.‏

وفي مطلق الأحوال، ما يعنينا هنا أيضاً هو تأكيد لازمة أساسية لخروج المقاومة منتصرة، هذه اللازمة تقول ونتيجة للترابط الاستراتيجي الكبير القائم بين مجمل الملفات والقضايا والأوضاع في المنطقة، إن محور المقاومة الممتد من فلسطين الى سوريا فإيران وأيضاً العراق، قد خرج قوياً من الحرب الأخيرة، في حين ان المشروع الاميركي دخل في مزيد من التخبط والإخفاق وتقلص الخيارات، سيما العسكرية منها، وبالتأكيد فإن حلفاء واشنطن الكبار والصغار في المنطقة يشاركونها الشعور بالخسارة.‏

في هذا المناخ العام جاءت جولة وزيرة الخارجية الاميركية كونداليزا رايس الأخيرة، لتستهدف على نحو رئيسي ووفق أولويات محددة الملفات التالية:‏

ـ الملف الايراني تحت عنوان مواجهة النفوذ الايراني الذي يتسع ويقوى في المنطقة. وهنا لم يفت رايس إثارة الأمور من منطلق مذهبي، في مسعى منها لإدخال المنطقة في صراعات أحلاف يتداخل فيها السياسي بالمذهبي: مربع سني قوامه كل من النظام المصري والنظامين السعودي والأردني، اضافة الى دول الخليج العربية، في مواجهة ما سبق وأشاعت له من محور الهلال الشيعي، والمقصود به تحديداً: ايران وسوريا وحزب الله وحماس في فلسطين، وإن كان الاعتبار المذهبي يفترض به إخراج حماس من هذا الحلف، وهذا ما سيعمل عليه بإصرار لكسر هذا النتوء وجعل الترويج للصراع على خلفيات مذهبية أكثر قابلية للتقبل.‏

ـ الملف العراقي بما يساعد على احتواء ما تسميه واشنطن النفوذ الايراني فيه والدور السوري فيه، وإعادة بناء مسار سياسي ما يساعد على اطلاق يد واشنطن أكثر في عملية تبني أي خيار عسكري ضد ايران.‏

ـ الملف السوري، وهنا يكمن أيضاً بيت القصيد، فواشنطن كما منظومة دول عرب الاستسلام تدرك أن المحور العربي ـ السني لا يأخذ كامل أبعاده وأدواره من دون سوريا. فدمشق حاجة مركزية لهذا المحور، أولاً كي لا تبدو دولة عربية اساسية شاهد ادانة على هذا المحور، وثانياً لأن سحب دمشق الى هذا المحور سيعني فعلياً وضع كل العرب في مواجهة ايران الشيعية، خصوصاً اذا ما نجحت محاولات إخراج حماس أيضاً من المعادلة.‏

ولذا فإن دمشق هي في عين العاصفة ومستهدفة بامتياز: إما لتغيير النظام فيها وإعادة إنتاج واقع جديد يأخذها تلقائياً الى المحور الاميركي، وإما استغلال كل الضغوط الممكنة لابتزاز سوريا ودفعها الى تقديم تنازلات اساسية تعادل انضمامها الى المحور الاميركي.‏

في هذا السياق لا بد من أخذ احتمالات شن حرب اسرائيلية على سوريا على محمل الجد، اضافة الى الفهم بدقة مغزى إصرار واشنطن ـ باريس وفريق السلطة في لبنان، على إنشاء محكمة دولية مسيّسة بامتياز، حيث المطلوب وضع سوريا وكل قوى المقاومة والممانعة في لبنان في قفص الاتهام، بما يسهل من عملية تطويع إرادتها لمصلحة المشروع الاميركي ـ الاسرائيلي في المنطقة. فالقصة إذن ليست قصة المحكمة الدولية، بقدر ما هي قصة صيغتها وإجراءاتها وباقي تفاصيلها التي تعمل عليها واشنطن لتمريرها بما يسهل عليها إنجاز ما تقدم.‏

أما فلسطينياً، وكما هو واضح، فإن المطلوب أميركياً وإسرائيلياً ومن قبل محورهما العربي، هو إما اسقاط حماس نهائياً، وإما تطويع ارادتها. واستنادا الى هذه الرؤية لا نبدو أمام أفق هادئ سياسياً، بل نحن في مواجهة أفق تتداخل فيه الملفات والقضايا على نحو استراتيجي، ما يجعل لكل منها تأثيره الايجابي أو السلبي على الآخر. وما يعقد من احتمالات التوصل الى تسويات هادئة، ما يعطي أرجحية فعلية لتقدم خيارات المواجهة السياسية على ما عداها، الا اذا اقتنع ـ ولو متأخرا ـ فريق السلطة، بأن عليه ان يغادر موقعه الاستئثاري لمصلحة الوفاق الوطني، وأن يغادر موقعه الالتحاقي بالمحور والمشروع الاميركي في المنطقة لمصلحة المشروع الوطني الفعلي، الكفيل فعلياً ولأول مرة في تاريخ لبنان، بأن يوفر نصاباً جامعاً الى حد كبير بالمعنيين السياسي والطائفي، يضعه على سكة بناء دولة فعلية ذات سيادة وحرية واستقلال، تقوم على تسوية ايجابية لا تغيب الخلافات، وإنما تكبر من المساحات المشتركة، وهي كثيرة.‏

مصطفى الحاج علي

الانتقاد/ العدد1184 ـ 13 تشرين الاول/اكتوبر2006‏

2006-10-13