ارشيف من : 2005-2008
خير من ألف شهر

يفرق كل أمر حكيم. أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين. رحمة من ربك إنه هو السميع العليم". وفي سورة القدر بأكملها.
وهي ليلة تتجدد كل عام إلى يوم القيامة. ففي الكافي عن داود بن فرقد قال حدثني يعقوب قال: سمعت رجلاً يسأل أبا عبد الله (ع) عن ليلة القدر فقال: أخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كل عام؟ فقال أبو عبد الله (ع): "لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن".
وتقع في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك. وتلتمس في ليلة التاسع عشر منه أو ليلة الواحد والعشرين أو ليلة الثالث والعشرين. وقد بيّن الإمام الصادق(ع) ما يكون في كل واحدة من الليالي الثلاث بقوله: في ليلة تسع عشرة من شهر رمضان التقدير، وفي ليلة إحدى وعشرين القضاء، وفي ليلة ثلاث وعشرين إبرام ما يكون في السنة الى مثلها، ولله عز وجل أن يفعل ما يشاء في خلقه.
وسميت بليلة القدر لأنها الليلة التي يقدّر الله سبحانه وتعالى فيها كل أحداث السنة من حياة أو موت وسعادة أو شقاء وحرب أو سلم وغيرها من الأمور، فهي ليلة الأقدار المقدّرة.
إنها ليلة تحدد مصير الإنسان وما يكون عليه للسنة القادمة، قال تعالى: "تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ"، وقال تعالى: "فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ"، أي كل الأمور والمسائل المصيرية يتم تقديرها في تلك الليلة.
وهذا المعنى تبينه جملة من الروايات:
ففي بصائر الدرجات عن ابن بكير عن أبي عبد الله (ع) قال: "إن ليلة القدر يكتب ما يكون منها في السنة إلى مثلها من خير أو شر أو موت أو حياة أو مطر، ويكتب فيها وفد الحاج".
سأل سليمان المروزي الإمام الرضا(ع) فقال: ألا تخبرنـي عـن لَيْلَةِ القَدْر في أي شيء أنزلت؟ قال: "يا سليمان؛ ليلة القدر يقدر الله عز وجل فيها ما يكون من السنة الى السنة، من حياة أو موت, أو خير أو شر أو رزق. فما قدره الله في تلك الليلة، فهو من المحتوم".
والله لا يقدر لعباده إلا وفقاً لحكمته البالغة وقضائه العدل. فلا يقضي لمؤمن صالح متبتل ما يقدر لكافر طالح، فلا يستوي المحسن والمسيء وما ربك بظلام للعبيد.. فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.
لكن الله سبحانه وتعالى وهو الرحمن الرحيم يفتح للمقصرين أو العاصين من عباده أبواباً من رحمته رأفة منه وتحنناً. فيختار لهم من عنده مواسم وأياماً محددة، يجعلها مضامير للتقرب إليه، فيتعبدهم فيها باليسير من أعمال الطاعات، ويدعوهم للتعرض له بالسؤال، فيمنحهم الهبات الكبيرة والجوائز النفيسة إحساناً منه وتفضلاً.
من هذه الايام، ليلة مولد الامام المنتظر (عج) في النصف من شعبان، وليلة الرغائب في أول خميس من رجب، والليالي البيض من كل شهر (الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر منه) ويوم الجمعة وليلته، وغيرها الكثير مما هو معروف لدى جميع المؤمنين. ومنها ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك.
ومن عظيم قدر ليلة القدر وفضلها أن الله تعالى جعلها خيراً من ألف شهر، أي ما يساوي معدل عمر الإنسان تقريباً. وقد سئل الإمام الصادق (ع) كيف تكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر؟ قال: العمل الصالح فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. ومن أجل ذلك نهى رسول الله(ص) أن يغفل أحد عنها أو ينام فيها كما ورد عن الإمام الباقر (ع). فقد تتغير حياة الإنسان في تلك الليلة تماماً. إنك قد تحيي ليلة القدر بالطاعة فيكتب الله اسمك في السعداء، ويحرم جسدك على نار جهنم أبداً. وقد يعجز الإنسان عن إدراك ذلك لعشرين أو سبعين عاماً أو أقلّ من ذلك أو أكثر. ولكنّ ساعة أو ربّما دقائق ولحظات في حياته قد تحدّد مصيره.
نعم؛ إنّها ساعة واحدة قد تهديك الى سبيل الجنّة والمغفرة والرضوان، وقد تسوقك ـ والعياذ بالله ـ إلى عذاب النار. فلا ريب أن مثل هذه الساعات من هذه الليلة الربّانية، ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر هي الساعات الأكثر قرباً من تلك الساعة.
فعن النبي (ص) أنه قال: قال موسى: إلهي أريد قربك. قال: قربي لمن استيقظ ليلة القدر. قال: إلهي أريد رحمتك. قال: رحمتي لمن رحم المساكين ليلة القدر. قال: إلهي أريد الجواز على الصراط. قال: ذلك لمن تصدق بصدقة في ليلة القدر. قال: إلهي أريد من أشجار الجنة وثمارها. قال: ذلك لمن سبّح تسبيحة في ليلة القدر. قال: إلهي أريد النجاة من النار. قال: ذلك لمن استغفر في ليلة القدر. قال: إلهي أريد رضاك. قال: رضاي لمن صلى ركعتين في ليلة القدر.
غير أن التوفيق الإلهيّ في هذه الليلة لا يمكن أن يكون من نصيب الإنسان الغافل الساهي عن فضيلة شهر رمضان. فالذي يبدأ اعتباراً من اليوم الأول من شهر رمضان المبارك بالطاعة والعبادة والتبتّل وقراءة القرآن والتضرع إلى الله، فإنّ الله جلّت قدرته سيمنحه درجة من التوفيق، وهكذا الحال بالنسبة الى اليوم الثاني والثالث، حيث يتدرّج في معارج التوفيق حتّى يصل الى مستوى الاستفادة والانتفاع من ليلة القدر.
فليلة القدر بالنسبة لما يسبقها من ليالي شهر رمضان بمثابة القمة لمسارٍ تعبدي يبتدئ منذ الليلة الأولى للشهر الكريم.
اسماعيل زلغوط
الانتقاد/ العدد1184 ـ 13 تشرين الاول/ اكتوبر 2006