ارشيف من : 2005-2008
من ملاحم الإعجاز الغيبي في القرآن الكريم:الإخبار الإلهي بفتح مكة

كانت "الصناعة الأدبية" من شعر ونثر وخطابة، طاغية على أهل زمانه، فجاء القرآن الكريم بسوره وآياته المعجزات متناسباً مع هذه الصناعة لناحية بلاغته، ومتميزاً عنها، بأنه ليس فيه شيء من أصنافها، فلا هو شعر ولا نثر ولا سجع، بل هو قرآن في سور وآيات ومقاطع، فجارى في ذلك ما تناسب من معجزات الأنبياء الذين سبقوه، مع الشائع في عصورهم.
إلا أن إعجاز القرآن الكريم لم يقتصر في مضمونه على بلاغته، وبيانه، وحُسن نظمه وإيقاعه فحسب، بل تعدى كل ذلك الى إعجازه في الإخبار الغيبي عن أحوال الماضين، بتفصيل دقيق، وإعجازه في الإخبار عما سيكون، أيضاً، وقد تحدث عدد من الآيات القرآنية عن أمور ستحصل في الآتي من الأيام والسنين، وحصلت (سورة الروم مثالاً)، ومن جملة هذه الإخبارات الغيبية المعجزة، الحديث القرآني عن النصر الآتي، مع الفتح، حيث قال الله تعالى في سورة النصر: "إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً".
وورد في تفسير هذه السورة ـ بحسب تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي وغيره من المفسرين ـ أنه "وعدٌ له (ص) بالنصر والفتح، وأنه سيرى الناس يدخلون في الإسلام فوجاً بعد فوج، وأمره بالتسبيح حينئذ والتحميد، والسورة مدنية نزلت بعد صلح الحديبية، وقبل فتح مكة، على ما نستظهر" (الطباطبائي).
وجاء في شرح السورة: قوله تعالى "إذا جاء نصر الله والفتح"، ظهور "إذا" المصدَّرة بها الآية في الاستقبال يستدعي أن يكون مضمون الآية إخباراً بتحقق أمر لم يتحقق بعد، وإذا كان المُخبَرُ به هو النصر والفتح، وذلك مما تَقَرُّ به عين النبي (ص) فهو وعدٌ جميل وبشرى له (ص)، ويكون من ملاحم القرآن، وأوضح ما يقبل الانطباق عليه ـ النصرُ والفتحُ المذكوران في الآية ـ هو فتح مكة الذي هو أهم فتوحاته (ص) في زمن حياته، والنصر الباهر الذي انهدم به بنيان الشرك في جزيرة العرب.
لقد أعد رسول الله (ص) العدة لفتح مكة بعد أن نقضت قريش صلح الحديبية الذي أبرمته معه، وجهز جيشاً قوامه أكثر من عشرة آلاف رجل من المسلمين ساروا من المدينة بقيادته(ص) يوم الجمعة في الثالث من شهر رمضان من العام الثامن للهجرة، بعد صلاة العصر، وهم صيام، وكانوا لا يعلمون وجهة النبي في حربه هذه، الى أن وصلوا بعد أيام الى مشارف مكة، وكان يتقدم كل فرقة منهم صاحب راية، وهم يكبِّرون، وصارت قبائل العرب تدخل واحدة تلو الأخرى في الإسلام، الى أن وصلت كتيبة خضراء ترفرف فوقها الألوية والرايات، يتقدمها وجوه المهاجرين والأنصار، وهم متغطون بالحديد، ولا يرى من وجوههم سوى عيونهم، وفي مقدمها سعد بن عبادة وبيده الراية، وفي الوسط نبي الرحمة محمد (ص)، ولما وصلت الكتيبة الى مقربة من رأس الشرك أبي سفيان صرخ سعد في وجهه "اليوم يوم الملحمة اليوم تُسبى الحرمة"، إلا أن النبي (ص) لما علم بنداء سعد أمر منادياً أن ينادي في أهل مكة "اليوم يوم المرحمة"، ثم سار النبي (ص) بهم حتى وصل الى الكعبة وقد أحاط بها الناس وملأوا فناءها، ثم خاطب قريشاً فقال: "ما تظنون وما أنتم قائلون؟". فأجابه سهيل بن عمرو (أحد أطراف صلح الحديبية) وكان في مقدمة القوم: "نقول خيراً ونظن خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قَدِرْتَ". فقال النبي (ص): "أقول كما قال أخي يوسف "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين" (...) ثم قال: معاشر قريش... ألا بئس جيران النبي كنتم، لقد كذَّبتم وطردتم وأخرجتم وآذيتم وفللتم وكسرتم ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلوني. فأحنى الناس رؤوسهم وهم يقولون نادمين: نعم ذلك كان. فقال النبي (ص): اذهبوا فأنتم الطلقاء".
لقد جاء نصر الله والفتح، على يد رسول الله (ص) ومن معه من المؤمنين، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ودخل نبي الرحمة محمد (ص) مكة فاتحاً من دون أن تُراق قطرة دم، ووقف أمام باب الكعبة وأخذ بعضادتي بابها ورفع صوته قائلاً: "لا إله إلا الله وحده وحده، أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده".
عدنان حمّود
الانتقاد/ العدد1184 ـ 13 تشرين الاول/ اكتوبر 2006