ارشيف من : 2005-2008

رمضان الأربعينات في فلسطين:ملامح بسيطة للزمن الغابر

رمضان الأربعينات في فلسطين:ملامح بسيطة للزمن الغابر

التحقيق ـ الذي أردناه محطة للحدث عن رمضان الأربعينات في فلسطين ـ سوى، فقط، على بعض الملامح الرمضانية البسيطة ـ وليس كلها ـ في ذلك الزمان الغابر.‏

نعتمد في سردنا هنا على شهادات ثلاثة حجاج فلسطينيين كلهم من جيل واحد، ممن عاصروا سنوات الأربعينيات 1940م في بدايات حياتهم في وطنهم فلسطين، قبل أن يفرقهم الاحتلال الصهيوني بعد سنوات من ذلك في بلاد الشتات. وهؤلاء الحجاج هم:‏

محمد أحمد الخياط من مدينة حيفا، صبحي عبد الرحيم الصادق من قرية "دير القاسي" (قضاء عكا) ومحمد حسين من قرية سعسع (قضاء صفد).‏

بديهي أنه لا يتم الدخول في الشهر الكريم (رمضان) إلا برؤية الهلال بالعين المجردة أو بمنظارٍ مقرّب، ودائماً ما تحصل هذه الرؤية في القرية أو المدينة من فوق مرتفع عالٍ، كتلة جبل، أو سطح بيت سكني أو سطح مكان للعبادة كالجامع أو الكنيسة مثلاً، فقد كان في مدينة حيفا الواقعة في جبل الكرمل شخصان أو ثلاثة يصعدون إلى سطح كنيسة "مار الياس" هناك مع راهبين اثنين يحمل أحدهما منظاراً لتقريب الرؤية، وعندما يتم التأكد من رؤية الهلال يجري اتصال هاتفي من الكنيسة مباشرة بدار الفتوى الواقع في وادي الصليب هناك، والذي يزوره بعض الأهالي لإعلامه بحصول الرؤية أيضاً فيتولى الدار نقل خبرها إلى الأهالي في المدينة أو أهالي قرى القضاء، حيث يرسل الخبر إلى مختار القرية الذي بدوره يكلف ناطور القرية الذي يدور في أزقتها راكباً فرساً منادياً على بدء الشهر الكريم الذي يستقبله الناس بالتهاليل المباركة والتسابيح لله سبحانه وتعالى، والتسليم على رسوله محمد (ص).‏

في تلك الحقبة التي نحن بصددها لا بد من الاشارة إلى أن عادات أهلها ونمط عيشهم كانت قريبة بل مشابهة إلى حد بعيد لعادات أهل الجنوب اللبناني، فلقد كانت البيوت في القرى والمدن قريبة من بعضها، ولم يكن الناس بعد قد عرفوا الكهرباء، ويستعملون ما يُعرف وقتها بـ"النواصة" ذات الفتيل المشبع بالزيت والغارق في جرن من تنك، أو السراج نمرة 2 و3 و4 الذي كان يسمى "سراج الغول"، أو الميكروفونات ولا المذياع ولا التلفزيون، والسيارات كانت قليلة جداً جداً، ولم يكن ثمة وجود لبرادات تحفظ الطعام من التلف لذا كان الناس في ذلك الوقت يستعيضون عن ذلك بما يُعرف بـ"الكبكة"، وهي عبارة عن خشبة مربعة مهواة بفتحات في وسطها وجوانبها تعلق بالسقف بحبل من المرس يضعون فيها الطعام من وقت إلى آخر، كذلك كان ماء الشرب يوضع في جرّة من فخار تملأ وتوضع في الهواء الطلق ليظل ماؤها بارداً مستساغاً للشرب.‏

لقد كان المؤذن يصعد إلى سطح الجامع لينطلق بالأذان من هناك يبثه سياقياً من الجهات الأربع في أوقات الصلاة الخمس، وكان المؤمنون يجتمعون بالجامع مصطحبين معهم أولادهم الفتيان ليعلموهم الصلاة والتسابيح الدينية والمدائح النبوية في الشهر الفضيل، ويقول الحاج أبو حسان كنا في عمرنا ذاك أولاداً ننتظر حلول الإفطار قاعدين بقرب جامع سعسع ليقول المؤذن: "الله أكبر"، وقد كان المؤذن يضع في جيبه تيناً يابساً حيث نشاهده يقرأ في الاتجاهات الأربعة آيات قصار من القرآن الكريم، ثم عند حلول الإفطار يتبلغ بكوز من التين اليابس ثم يشرع في تلاوة الأذان، وكنا نقول عندما نراه يفعل ذلك: "ليكو، ليكو الشيخ أكل" أي أفطر، وبعد الأذان نركض نحن في أزقة الحارات معلنين أن المؤذن قد أذّن. ويقول صبحي صادق إنه في الكويكات كان مؤذن القرية يقسّم الشهر الفضيل إسمياً إلى ثلاثة أقسام متساوية، عشرة أيام لكل قسم، يطلق على القسم الأول أي العشرة الأوائل "رحمة" والعشرة المتوسطات: "مغفرة" والعشرة الأواخر: "عتق من النار".‏

وكان المسحراتي في مدينة حيفا، مثلاً يحمل وعاءً من نحاس يشبه الطاسة، يسمونه "بازة" يضرب عليه بجلدة صائحاً الجملة التقليدية "يا نايم وحّد الدايم"، بينما كان في الكويكات يحمل لكناً من نحاس أصفر يدق عليه بعصا منادياً: "يا غافل، وحّد الله"، كما كان يخاطب أبناء الحي بأسمائهم الشخصية وألقابهم لينهضوا ويتناولوا سحورهم الذي كان عادة في المدن والقرى الفلسطينية طبيخاً ساخناً محضراً في وقته، كما على مائدة افطارهم مساءً التي يدخل في عدادها الفتوش والتمر والشوربة.‏

وفي هذا الشهر المبارك، كان من الضروري أن يقوم الفلاح بزيارات للأهل والأقارب والجيران بعد صلاة العشاء.‏

وقد كان الطعام كما أسلفنا مضافاً إلى المونة البيتية، عسلاً وجوزاً ولوزاً ولبنةً ولبناً وجنة وخضاراً وفواكه مجففة وتيناً يابساً.‏

أما الخبز فكان إما على الصاج أو على الطابون الذي هو عبارة عن موقد كبير أو بيت صغير للنار مصنوع من التبن المعجون بتراب، هو بودرة حجر يذوب في الماء اسمه "حوارة"، وتحفر في الأرض جورة وينصب هذا الموقد فوقها، ويوضع عليه غطاء مثل غطاء الطنجرة ليبقى ساخناً، في داخله ترصف أرضه بكسرات فخارية أو حجارة صوان صغيرة أو جفت زيتون.‏

ويخبز الخبز عليه بعد أن يزنر بالنار من الخارج، الناتجة عن ايقاد روث الحيوانات، وكان هذا الخبز يخبز وقت الحاجة اليه للأكل مباشرة. ويؤكد شحاذي أن بعض القرى لم تكن تعرف المناقيش بزعتر أبداً، بل فقط كانوا يعملون المناقيش بالبصل.‏

أما الحلويات فكانت "حلاوة النص" يؤتى بها من عكا في "نص شعبان"، اضافة إلى الزلابية وعجّة البيض ومعجنات، بسمسم وسكر والقطايف والكنافة بجبن والقمر الدين والغريبة وأقراص بتمر والعوّامات، وغير ذلك، هذا مضافاً إلى المربيات: السفرجل والتين والعنب إلى دبس العنب ومربى الزعرور واللقطين، وقد كان كل رب عائلة تقريباً يشتري خروفاً ليذبحه في العيد، عدا الكبة النيئة التي كان لا يخلو منها بيت كل يوم خميس في رمضان، اضافة إلى الزيتون وزيت الزيتون الذي كان يستعمله الفلاح في جميع أنواع الطبخ والقلي لكثرته أولاً، ولعدم وجود زيوت نباتية أخرى في ذلك الوقت، أما "المشاريب" فكانت: عرق السوس والتمر هندي وعصير الخروب، وحليب طبيعي الخ..‏

وبعد صلاة العيد تُزار "المقابر" لقراءة الفاتحة ووضع الورود وجريد النخل والريحان على القبور.‏

والأب يأخذ أولاده "لعند قرايبهم" ليعايدوهم ويعطوهم المصروف (عيدية) تتراوح بين التريفة (نصف قرش فلسطيني) والقرش والخمسة قروش (شلن الخمسة) والعشرة قروش (شلن العشرة).‏

ويوم العيد تعمر الدبكات على البيادر وتصدح أغنيات الشباب والشابات كل على حدة، فالاختلاط كان ممنوعاً في مثل هذه الأيام، مع نصب المراجيح. أما الاعلان عن العيد فيأتي الخبر من الأزهر في مصر، إلى دار الفتوى في فلسطين، لذا كانوا يقولون: "إجا العيد من مصر".‏

احمد ياسين‏

الانتقاد/العدد 1184 ـ 13 تشرين الاول/ اكتوبر 2006‏

2006-10-13