ارشيف من : 2005-2008

شهيد المحراب في محراب الشهادة

شهيد المحراب في محراب الشهادة

المشرفة التي يتوجه اليها المسلمون في صلاتهم كل يوم، وهذا يعني أن كل صلاة نصليها يكون الإمام علي (ع) حاضراً فيها، خصوصاً أن ذلك الانسان العظيم كان دوره في بناء دولة الإسلام وفي تحصين العقيدة الاسلامية كبيراً ومميزاً، فمنذ مبيته على فراش النبي (ص) عند هجرته من مكة إلى المدينة، إلى مشاركاته العديدة في المعارك التي خاضها المسلمون زمن النبي (ص) كانت له اليد الطولى في انتصار المسلمين، ويكفيه قول رسول الله (ص) يوم الخندق عندما قتل عمرو بن ود العامري "إن ضربة علي تعدل عمل الثقلين".‏

ولم تكن شهرة الإمام علي (ع) من خلال شجاعته فقط، وإن كانت صفة بارزة فيه، إلا أنه كان يتمتع بمواصفات الإنسان الكامل من خلال عصمته، فكان ورعاً تقياً عابداً زاهداً ناسكاً عادلاً عالماً فقيهاً، ويكفيه قول النبي (ص) فيه "أنا مدينة العلم وعلي بابها".‏

وهذا كله لأنه كان أقرب إنسان الى رسول الله (ص) منذ طفولته الى حين ارتحال النبي (ص) الى ربه راضياً مرضياً، وكان النبي (ص) ينقل له كل شيء مما يأتيه به الوحي، حتى قال الإمام علي (ع) في إحدى كلماته "سلوني قبل أن تفقدوني فإني بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض".‏

ولهذا كان الإمام علي (ع) مستحقاً لخلافة المسلمين بعد رحيل رسول الله (ص) إلا أن الأمور لم تجر كما كان يجب، ولكن مع ذلك صبر وكظم وتحمل، بل أكثر من ذلك كان الناصح والمشير على من استلم الخلافة قبله، لأنه كان يرى أن قضية الإسلام أكبر من الأشخاص مهما علا مقامهم ومهما كانت منزلتهم، لأن الأشخاص يذهبون، بينما الإسلام هو الدين الخاتم الذي لا بد له من أن يستمر الى أن تقوم الساعة، ولهذا كان حريصاً كل الحرص من هذه الناحية، متجاوزاً في ذلك كل الغصص والآلام التي تجرعها وهو يرى حقه أمام عينيه يتداوله الآخرون ويحلمون به.‏

واستطاع الإمام علي (ع) بهذا الأسلوب بعد مقتل الخليفة الثالث "عثمان" أن يكون مورد الاجماع عند أهل الحل والعقد على استلام الخلافة لقيادة الأمة الاسلامية ورعايتها وتدبير شؤونها، وأن يسير بالأمة كما كانت في عهد رسول الله (ص) طبقاً لموازين الإسلام وأحكامه من دون أني يحيد عنها مهما كانت المغريات أو العراقيل، وكما قال لابن عمه "عبد الله بن العباس" عندما وجده يرقع نعله، فقال له الإمام (ع) "ما قيمة هذا النعل؟" قال ابن عباس لا شيء.. فقال الإمام علي (ع) "والله لإمرتكم عندي لا تساوي هذه النعل إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً"، وهذه النظرة الى الخلافة تعني أن هذا الشخص يريد أن يتحمل مسؤوليات هذا المنصب كاملة بلا نقصان من دون محاباة لأحد، أو تنازل لأيّ كان، أو غض النظر عن تصرفات لا يقرها الإسلام ولو صدرت من علية القوم ومن زعماء المسلمين آنذاك.‏

ومن هنا نفهم المراد من النصوص الكثيرة الواردة عن النبي (ص) في حق علي (ع) مثل "الحق مع علي، وعلي مع الحق، يدور معه كيفما دار"، أو "يا علي: لولا أن أخشى أن تقول فيك فئة من الناس ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك مقالة، لا تمر على أحد من الناس إلا وأخذوا التراب من تحت قدميك".‏

مما تقدم نفهم أن "العدالة" هي محور حركة الإمام (ع) في خلافته، لأن "العدل" هو الذي يصون الأمة ويحمي الحقوق ويمنع الظلم والجور، ويحقق الأمن والسلام داخل جسد الأمة، ويجعلها متوحدة متراصة ومتكاملة مع بعضها البعض، ومن هنا فرض الإمام (ع) نفسه على الإنسانية جمعاء لا من موقع شجاعته الجسدية، ولا ببطولاته، ولا بزهده أو تواضعه، بل فرض نفسه بعدله الذي صار راية له وعلماً ورمزاً، ومن خلال عدله دخل الى قلوب المحبين وغيرهم على حد سواء، وكانوا من المعترفين بعدالة علي (ع)، وأنه لو تيسر له أن يحكم مرتاحاً من دون المتاعب التي تسبب له بها المنحرفون لاستطاع أن يعود بالأمة الى زمن النبي (ص) لتكون حياة الأمة على أحسن ما يرام.‏

فالإمام علي (ع) يرى أن الحكم وسيلة لإحقاق الحق وإقامة موازين العدل، وليس وسيلة للاستقواء والاستعلاء، أو للعز والجاه، ويقول (ع) "... وأعظم ما افترض ـ سبحانه ـ من تلك الحقوق: حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فجعلها نظاماً لألفتهم وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرعية الا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة الا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية الى الوالي حقه، وأدى الوالي اليها حقها، عزّ الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء...".‏

ولأن الإمام علياً (ع) ينظر الى الحكم والولاية بهذه النظرة الإلهية الشفافة والمستقيمة، قام ضده الذين حاربهم من "القاسطين والمارقين والناكثين" ممن كانت أهواؤهم تخالف مسيرة علي (ع)، فلم يسمحوا له بأن يحكم وفق نظرته، فأشغلوه بحروبهم من "الجمل" الى "صفين" ثم النهروان" حتى لا يعطوه الفرصة والوقت لإعادة الأمور الى نصابها، والى الصراط المستقيم الذي كان يسعى من خلال خلافته لإعادة الأمة اليه.‏

وكان يقول (ع) "... فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق"، ولذا قال في كلام له عند عدم وجود العدل ".. فإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته، اختلفت هناك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدين، وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل فعل، فهناك تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد...".‏

فالعدل عند علي (ع) هو المدخل للأمة والسلام الاجتماعيين، وهو الصائن للقيم والحريات، وهو المحفز للإبداعات الإنسانية، وهو الذي يجعل من الحياة الدنيا جنة يتمنى الناس لو يبقون فيها، وأما الظلم عنده فهو النقيض من كل هذا، ولهذا لم يرتض لنفسه أن يكون اسمه مدوناً الى جانب من سودوا وجه التاريخ الإنساني بالظلم والاضطهاد، وفضّل أن يكون اسمه مدوناً بأحرف من نور في سجل من بيضوا وجه التاريخ من الأنبياء والمصلحين وعلى رأسهم خاتم الأنبياء محمد (ص)، ولهذا صارت خلافة علي (ع) بسبب سعيه لتحقيق العدالة مقياساً صارماً وميزاناً دقيقاً لا يقبل المساومة مهما كانت عناصر الترغيب أو الترهيب.‏

وقد تجلى عدل علي (ع) في فعله وقوله، وكان عادلاً في معارضته كما كان عادلاً في حاكميته، فلم تخرجه معارضته عن قول الحق والعدل الى غيره، ولم تجعله حاكميته عندما عادت اليه أن ينحرف بها الى ما يخالف طريق الحق والعدل والاستقامة والشفافية والنزاهة ونظافة الكف وغير ذلك من الصفات المحمودة التي يجب أن يتحلى بها الحاكم العادل الذي يخاف الله في نفسه وفي الناس، لأنه يعلم أنه سيكون له موقف في الآخرة أمام الله ليحاسبه على كل ما قال وفعل.‏

من هنا يمكننا القول بكل جرأة وصراحة وشفافية أن عدل علي هو السبب الرئيس الذي أدى في نهاية المطاف الى استشهاده في محراب الصلاة والشهادة لله عز وجل، لأن النفوس الضعيفة غير القادرة على مواكبة حكم علي (ع) القائم على أساس موازين الحق والعدل لا تستطيع أن تتحمل حاكماً وهو على ذلك المستوى الرفيع من العدالة، لأنه لن يحقق لها مطامعها الدنيوية من مكاسب ومال وإقطاعات وغير ذلك مما قد يوفره حكام لا يقيمون وزناً للعدل، بقدر ما يقيمون وزناً لكراسي الحكم والملك والعرش.‏

من هنا كان أمير المؤمنين (ع) شهيد المحراب في محراب الشهادة، لكنه بذلك صار القدوة والنموذج للحاكم العادل، وفضّل الشهادة في سبيل الحق والعدل على أن يبقى حاكماً يساوم ويهادن، وبذلك أرست شهادة الإمام (ع) الحدود الفاصلة بين الحكم العادل والحكم الظالم، لأن الحكمين يستحيل أن يجتمعا معاً، لأن كل واحد يلغي الآخر تمام الإلغاء، وهذا ما حصل بعد شهادة الأمير (ع).‏

فسلام عليه يوم وُلد، ويوم استشهد، ويوم يبعث حياً، ورزقنا الله شفاعته وشفاعة ابن عمه النبي الأكرم (ص) وشفاعة الزهراء (ع) والحسين (ع) وشفاعة الائمة (ع).‏

والحمد لله رب العالمين‏

الانتقاد/ العدد 1184 ـ13 تشرين الاول/ اكتوبر 2006‏

2006-10-13