ارشيف من : 2005-2008

تركيا وأوروبا: تحت رحمة الفيتو القبرصي

تركيا وأوروبا: تحت رحمة الفيتو القبرصي

على شواطئ تركيا واليونان وبينهما في جزر بحر إيجة وفي قبرص، خرجت من رحم الأساطير القديمة هذه الحضارة التي تكلل فيها بالظفر المتعارف جبين الغرب، أوروبا وسليلتها أميركا. وقصة تركيا في علاقتها مع الغرب ـ بعد الجولة التاريخية الأولى التي مات فيها الحلم العثماني أمام أسوار فيينا، ليحلم بالانبعاث متعلقاً بالعربة الأخيرة في قطار الغرب ـ صارت شبيهة الآن، وفي ظل نوازع التفكير التركي بعدم الاكتفاء بدور الخادم الأطلسي، بقصص أبطال الأساطير القديمة.‏

كان عليهم أن يجتازوا جبال النار وبحار المخاوف المهولة، وأن يحلوا ألغاز السحرة ليصلوا، إذا ما توافر الحظ، إلى القصر السعيد.‏

وفي حين وضعت تركيا مسألة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي فوق كل المسائل، مضت عقود وأوروبا تفكر في المسألة متأرجحة بين الطمع بمد حدودها، في العالم التركي، إلى منغوليا في أقصى الشرق، والخوف من صورة "التركي العظيم" الذي لا يزال يجثم في الذاكرة الأوروبية بعد قرون طويلة من العظمة. وكان لا بد من الحسم أخيراً، في تشرين الثاني/أكتوبر الماضي باتخاذ قرار الموافقة، بعد تشنجات كادت تطيح بالاتحاد، على إطلاق مفاوضات يفترض بها أن تفضي في غضون عشر سنوات أو أكثر إلى ولوج تركيا في البيت الأوروبي السعيد. مع الانتباه، منعاً للأوهام الخُلَّبية، إلى كون البيت السعيد ذا طوابق علوية وسفلية وغرف للأسياد وأخرى للخدم، وحجرات وصالات للترف وأقبية للبؤس والشقاء.‏

وكان من المفترض أن تبدأ المفاوضات يوم الاثنين الماضي (12/06/2006) حول أول الملفات وأكثرها سهولة، ملف العلم والأبحاث، لأن البرامج التركية في هذا المجال منسوخة حرفياً منذ أمد بعيد عن البرامج الأوروبية. كما كان من المفترض أن يعالج هذا الملف بمنتهى السهولة إفساحاً في المجال لفتح ملف ثانٍ من أصل الملفات الخمسة والثلاثين التي ستدور حولها جولات الملفات المستقبلية. ولكن "الشوكة القبرصية" برزت يوم الجمعة الماضي وأخذت شكل سيف مصلت، بقوة الفيتو، على رؤوس الجميع، أوروبيين وأتراكاً. فقد طلب القبارصة ـ أي القبارصة اليونانيون الذين استولوا على الحكم بانقلاب عسكري بإيعاز من أثينا في محاولة لضم الجزيرة إلى اليونان قبل أكثر من ثلاثين عاماً، ليصطدموا برد تركي عسكري نجمت عنه ولادة جمهورية قبرص التركية التي يرابط فيها أربعون ألف جندي تركي ـ طلبوا ضم التصريح التالي إلى وثائق الاتحاد: "الاعتراف بجميع الدول الأعضاء هو عنصر ضروري في عملية الانضمام. وبالتالي فإن الاتحاد الأوروبي يؤكد على الأهمية التي يوليها لتطبيع العلاقات الثنائية بين تركيا وجميع الدول الأعضاء بالسرعة الممكنة". إذن المطلوب الآن من تركيا، وهي الدولة الوحيدة التي تعترف بالقسم التركي من الجزيرة دولة مستقلة، وتحجب الاعتراف بالقسم اليوناني لأنه لا يمثل كامل الجزيرة، هو أن تعترف بشرعية الدولة الإنقلابية التي كانت سبباً في تقسيم الجزيرة، ووضع قسمها التركي في حالة عزلة دولية شبه كاملة.‏

وهنالك أمر آخر. الاتفاقية التي تضم تركيا جمركياً إلى الاتحاد الأوروبي وقعتها أنقرة في تموز/ يوليو الماضي، وهذه الاتفاقية تلزمها بالتعامل، وفق المعايير الأوروبية، مع البلدان الأوروبية العشرة التي انضمت إلى الاتحاد عام 2004. وما يسميه الأوروبيون قبرص، أي ما لا يعترف الأتراك إلا بكونه القسم اليوناني القائم بلا شرعية في قبرص، هو تحديداً واحد من هذه البلدان العشرة. لذا كان على تركيا أن تلحق بالتوقيع ملاحظة مفادها أن التوقيع لا يعني الاعتراف بالحكم القائم في نيقوسيا. وفي الوقت ذاته واصلت تركيا إقفال موانئها ومطاراتها في وجه السفن والطائرات القبرصية، ثباتاًً منها عند موقفها في رفض الاعتراف. وقد أثار هذا الأمر انزعاج الأوروبيين وجعلهم يصدرون تصريحاً مضاداً يطلب اعتراف السلطات التركية بجميع الدول الأعضاء، مع الإعلان بأن المسألة ستفحص خلال العام 2006. هنالك إذن متسع من الوقت يراهن فيه الأوروبيون على تحصيل الاعتراف التركي. ولهذه الغاية، سمحوا لأنفسهم بالضغط على القبارصة اليونانيين الذين أعادوا سيف الفيتو إلى غمده، وسمحوا بإطلاق المفاوضات، بعد أن قدموا تنازلاً من نوع قد يحصلون مقابله، من تركيا، طالما أن ملفات المفاوضات كثيرة ومتزايدة التعقيد، على عشرة تنازلات أولها الاعتراف وما يتلوه من مشكلات سيطرحها وجود جمهورية قبرص التركية غير المعترف بها دولياً. هل تتخلى تركيا عن قبرص التركية مع ما قد يجره ذلك من انعكاسات خطيرة على الأم وابنتها؟ هل ستوافق على التلمحيات الأوروبية بضم القسم التركي من قبرص بدوره إلى الاتحاد، ما يعنى الاعتراف بدولتين في الجزيرة، أو بدولة فيدرالية في أحسن الظروف تهيمن عليها نيقوسيا. هل تندفع إلى ضم القسم التركي وإلحاقه بها في رحلة الانضمام الطويلة إلى الاتحاد، مع ما يفترضه ذلك من إثارة نيقوسيا وأثينا وسائر بلدان الغرب؟ أسئلة كثيرة شائكة كان يمكن تلافيها لو أن القبارصة اليونانيين وافقوا، شأن القبارصة الأتراك على إعادة توحيد الجزيرة بناءً على الخطة التي فشل كوفي آنان في تمريرها عام 2004.‏

عقيل الشيخ حسين‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1166 ـ16 حزيران/يونيو 2006‏

2006-10-28