ارشيف من : 2005-2008
مجزرة "حديثة":اعترافات غربية وأميركية بالمنهج الدموي.. ولا شيء سوى الاعتذار!

بغداد ـ عادل الجبوري
مجلة "تايم" وصحيفة "واشنطن بوست" الأميركيتان وصحيفة "تايمز" البريطانية الواسعة الانتشار وليس غيرها، من كشف تفاصيل مجزرة مدينة حديثة ـ 250 كم غربي بغداد ـ التي ارتكبتها مجموعات من جنود مشاة البحرية الاميركية "المارينز" في ساعة مبكرة من صباح يوم التاسع عشر من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وراح ضحيتها أكثر من عشرين عراقيا بعضهم أطفال ونساء وشيوخ كبار طاعنون في السن.
وما فعلته "التايم" و"واشنطن بوست" و"تايمز" هو أنها نشرت تقارير تضمنت سرد وقائع عن العملية، من بينها حوارات مع شهود عيان هم في ذات الوقت ذوو عدد من ضحايا المجزرة.
من هؤلاء الشهود صبية عمرها عشرة أعوام اسمها إيمان تحدثت لصحيفة "تايمز" وقالت "إنها كانت لا تزال ترتدي البيجاما عندما اقتحم جنود أميركيون منزل أسرتها حوالى الساعة السابعة صباح يوم التاسع عشر من تشرين الثاني الماضي، وإن والدها كان يصلي، وجدّها وجدّتها كانا نائمين".
العملية بدأت بإطلاق النار، وبعد خمس عشرة دقيقة اقتحم جنود مشاة البحرية الاميركية "المارينز" منزل الاسرة وبدأوا عملية تفتيش بحثا عن مسلحين. وتشير الطفلة إيمان الى ان الجنود أخذوا يصرخون في وجه والدها ثم ألقوا قنبلة في حجرة جدها وجدتها، وأنها شاهدت أمها وقد أصابتها الشظايا.. بينما حملت خالتها أخاها الصغير وخرجت مسرعة من المنزل.
أفراد هذه الأسرة قضوا نحبهم كلهم الا إيمان وشقيقها الصغير عبد الرحمن.
المنابر السياسية ووسائل الاعلام العراقية تناولت الموضوع بشيء من الاهتمام، وبعضها اعتبرته ـ وربما هو كذلك ـ تكرارا أو استمرارا لانتهاكات "أبو غريب" التي كُشف عنها قبل أكثر من عام، وانتهاكات مماثلة في مناطق أخرى من العراق.. وما أكثرها!
رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي سارع إلى الإعلان عن تشكيل لجنة تحقيق للكشف عن ملابسات العملية، الى جانب مطالبته قوات الاحتلال تحويل ملف التحقيق في هذه القضية الى الجهات العراقية، وتقديم اعتذار رسمي الى الحكومة العراقية ودفع تعويضات مالية مجزية لذوي الضحايا.
ومع ان موقف رئيس الوزراء قوبل بارتياح نسبي في أوساط سياسية وشعبية، الا ان بعض الأطراف رأت انه لا بد من اتخاذ مواقف اكثر حزما تجاه ممارسات قوات الاحتلال ضد المدنيين، وتبسيط الامور من قبل القادة السياسيين والعسكريين الأميركان غير مقبولة، والتبريرات مهما كانت فإنها تبقى قاصرة عن تسويغ قتل المدنين الأبرياء.
بالفعل فإن تبسيط الامور والتبريرات الواهية ربما يدفع الى المزيد من الاحتقانات، خصوصا ان هناك مؤشرات في الأفق عن عمليات عسكرية واسعة وشيكة للقوات الأميركية والقوات العراقية في مدينة الرمادي للقضاء على الجيوب المسلحة لما يسمى بتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين وجماعات أخرى.
ووزارة الحرب الأميركية "البنتاغون" المعنية بهذا الامر بدأت تحقيقا لمعرفة ما اذا كان جنود "المارينز" قد قاموا بقتل المدنيين العراقيين في حديثة بدم بارد أم لا!
وعبارة "بدم بارد أم لا"، تبدو فضفاضة الى حد كبير ولا يمكن إخضاعها لمعيار محدد وواضح يمكن ان تترتب عليه آثار قانونية سليمة وعادلة ومنصفة للضحايا، سيما ان الجهة المتصدية للتحقيق والبت في الموضوع ليست محايدة.. وحتى لو كانت كذلك فإن أحكامها لا ترقى الى مستوى الفعل الجرمي. فأحكام من قبيل الفصل من الجيش او خفض الرتبة العسكرية او الحبس عدة شهور او حتى عدة سنين، لا تتناسب بأي حال من الاحوال مع عملية قتل عشرات الأبرياء، سواء كان ذلك بدم بارد او ساخن! لا فرق..
وفي هذا الوقت أعلن وزير الحرب الاميركي دونالد رامسفيلد "ان هناك تحقيقين سوف يتعاملان مع تلك المزاعم ـ وهو يطلق على ما كُشف عنه "مزاعم" ـ أحدهما جنائي بخصوص الحادث نفسه، وآخر حول ما إذا كان جنود مشاة البحرية قاموا بعدها بالتغطية على القضية".
وبرغم الفضيحة وما سبقها يحرص "رامسفيلد" على تأكيد مثالية جنوده بالقول: "إننا ندرك أن 99.9% من قواتنا تتصرف بطريقة نموذجية، كما ندرك أيضا أنه في الصراعات تحدث أمور لا ينبغي أن تحدث".
في مقابل ذلك فإن "صنداي تايمز" البريطانية نقلت عن مسؤول أميركي رفيع المستوى لم تسمه قوله: "إن الصور تشير إلى أن جنود "المارينز" الذين اشتركوا في الحادثة يعانون من انهيار شامل في أخلاقياتهم وقيادتهم، لذا أمرت قيادة قوات التحالف القادة العسكريين الميدانيين بإدارة تدريبات تتعلق بجوهر القيم المطلقة للجندي، والتركيز على أهمية الالتزام بالمعايير القانونية والأخلاقية والمعنوية في ساحة القتال".
في الوقت نفسه اعتبرت "واشنطن بوست" ان حادثة حديثة تشكل أخطر انتهاك لقوانين الحرب من جانب القوات الأميركية خلال ثلاثة أعوام من النزاع في العراق". في حين تشير منظمة إحصاء الجثث، وهي منظمة غربية متخصصة، الى "ان اكثر الضحايا المدنيين في العراق قُتلوا على يد الجيش الأميركي".
وبصرف النظر عن الدوافع والمبررات وراء قيام جهات وشخصيات سياسية وإعلامية غربية بتسليط الأضواء الكاشفة على جرائم من هذا القبيل، فإن ما يُتداول في الشارع العراقي لا يختلف عما تقوله وتذهب اليه بعض محافل السياسة والإعلام في الغرب ان لم يكن متطابقا معه.
لكن ذلك لا يعني ان تداعيات الامور بهذه الصورة ستقف عند حد معين، بل إنها بحسب ما يقول سياسي عراقي يجلس تحت قبة البرلمان: "لا تتصوروا ان الأميركان ستتفطر قلوبهم على العراقيين الأبرياء ومن ثم سوف يفكرون بانتهاج أساليب وسلوكيات أخرى أكثر إنسانية ورأفة، إن أكثر ما يمكن ان يفعلوه هو الاعتذار، وهل يجدي الاعتذار نفعا بعد ان تراق الدماء وتُزهق الأرواح؟".
الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1165 ـ 9 حزيران/يونيو2006