ارشيف من : 2005-2008
فضيحة "سويفت": اجتياح أميركي للمال العالمي

لم يعد الأمر مثيراً للفضول أو باعثاً على التشويق. فمن السجون العلنية في غوانتانامو وأبو غريب، إلى السجون والرحلات الجوية السرية بين أوروبا وآسيا وإفريقيا لاختطاف واحتجاز المشتبهين، إلى التنصت السري على المواطنين الأميركيين، وصولاً إلى التجسس السري أيضاً على التحويلات المالية العالمية، وخصوصاً على التحويلات السعودية والإماراتية، يبدو واضحاً ـ إذا ما اقتصرنا على الممارسات غير القانونية المرتبطة بالحرب على الإرهاب ـ أن الولايات المتحدة تحتل الرقعة الأكثر اتساعاً على لائحة الفضائح المتمثلة بانتهاك القوانين والحقوق في العالم.
الفضيحة الأخيرة التي وصفها المراقبون بأنها اجتياح أميركي هو الأخطر من نوعه للنظام المصرفي في العالم، كشفت عنها صحيفة النيويورك تايمز يوم الجمعة الماضي (23/06/2006). فقد ذكرت الصحيفة أن صلاحيات الطوارئ التي منحت للرئيس بوش بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، قد سمحت، في جملة ما سمحت به، بإطلاق برنامج أميركي للتجسس على المعاملات المالية في العالم، وأن جهاز الاستخبارات المركزية قام بإدارة البرنامج المذكور تحت إشراف وزارة الخزانة الأميركية.
وقد استخدم البرنامج، طيلة السنوات الخمس الماضية، عبر تخريجات والتفافات تحايلية على القوانين المرعية في الولايات المتحدة وغيرها من بلدان العالم، استخدم سجل المعلومات الخاص بشركة "سويفت" المتمركزة في بلجيكا، وهي شركة عملاقة متخصصة في بيع المعلومات عن العمليات والتحويلات المالية وحركة البورصات للمصارف والشركات والسماسرة، وتنفذ ما يزيد عن 11 مليون عملية تحويل مالي يومياً بقيمة ستة آلاف مليار دولار.
وترتبط الشركة المذكورة التي تتدخل في معظم المعاملات المالية في العالم بـ7800 مؤسسة مصرفية تضم البنوك الكبرى وكبار الوسطاء الماليين في العالم. أما وجه الفضيحة في الموضوع فيتمثل، من جهة، بالإطلاع غير القانوني من قبل السلطات الأميركية على حركة الأموال ومقدارها، وعلى الجهات أو الأشخاص الذين تنفذ العمليات المالية لحسابهم، من جهة أخرى.
ولا تخفى خطورة هذا النوع من التجسس المالي السهل في وقت باتت فيه المضاربات المالية تحتل تسعة أعشار الحركة الاقتصادية في العالم، وفي وقت تولي فيه الشركات والدول مسألة التجسس الصناعي والعلمي اهتماماً يفوق الاهتمام بالتجسس السياسي والعسكري.
وقد حاولت إدارة الرئيس بوش، دون جدوى، ثني النيويورك تايمز عن نشر التقرير الخاص بإطلاق البرنامج. وبعد نشره، شنت هجوماً عنيفاً على الجريدة لأنها اختارت، مرة أخرى، كشف برنامج سري وضع لحماية الأميركيين.
وهكذا اعترفت الإدارة الأميركية بإطلاق البرنامج مبررة ذلك بضرورة تعقب الأموال المستخدمة في تمويل الإرهابيين، وصار بإمكان وزير الخزانة، جون سنو، أن يعلن افتخاره به، مشيداً بدوره كسلاح فعال في الحرب ضد الإرهاب بدليل أنه ساعد على اعتقال شخص مرتبط بالقاعدة في جنوب شرق آسيا! كما صار على الناس أن يصدقوا جون سنو في قوله بأن البرنامج الذي يعالج هذا الكم الهائل من المعلومات يومياً لا يستخدم إلا في تعقب من يشتبه في تورطهم في أعمال عدائية ولا يفضي، طيلة خمس سنوات من عمل آلاف المختصين، إلى أكثر من اعتقال شخص في جنوب شرق آسيا.
وإذا كان برنامج التجسس المالي قد حقق هذا الإنجاز، فإن المزاعم الأميركية تعيد له الفضل في تجميد أرصدة مئات الجمعيات الإسلامية العاملة في مجالات التعليم والخدمات الاجتماعية والثقافية حتى دون أن تضبط متلبسة بتمويل الإرهاب. لأن المقصود منها هو إصابة عصفورين بحجر واحد عبر وضع اليد التعسفي على أموال تلك الجمعيات، ووقف ما تقوم به من أعمال من شأنها أن تسهم بتعزيز الإحساس بالهوية الإسلامية كتأكيد إضافي على الطبيعة الحقيقية للحرب على الإرهاب كتجسيد لصراع الحضارات.
والحقيقة أن الإدارة الأميركية لم تكن بحاجة إلى كل هذا البرنامج لتحقيق هذه الغاية، لأن الجمعيات المذكورة هي، بحكم توجهاتها نحو ما يتطلبه العمل الثقافي من استقرار، هي الأكثر بعداً في العالم عن الذهنية الإرهابية.
وبذلك، يتضح أن برنامج التجسس المالي، كغيره من البرامج التي أطلقت تحت مظلة الحرب على الإرهاب، هو في الحقيقة برنامج جهنمي يهدف إلى تحديد مواقع المال العالمي، وخطوط انتقاله وحجمه، تمهيداً للانقضاض عليه عملاً بشريعة السطو والنهب التي تحكم مجمل السياسات الأميركية.
ولا تشذ عن القاعدة أموال الأميركيين أنفسهم ممن عليهم أن يتحملوا كراهية الشعوب لهم وإجراءات التنصت عليهم، وما يحيط بهم من تهويلات يومية بالتفجيرات الإرهابية الوشيكة، وما هم مرغمون عليه من دفع نفقات الحرب من أموالهم ودمائهم، ليكتشفوا أيضاً أن الكاميرات السرية التي يديرها المحافظون الجدد تنفذ إلى داخل جيوبهم لتعرف مقدار مدخراتهم على طريق ابتكار الوسائل لغصبها منهم.
ع.ح
الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1168 ـ 30 حزيران/يونيو 2006