ارشيف من : 2005-2008
عراقيون اكتووا بنيران الإرهاب الدموي: الإرهابيون يستهدفون افتعال حرب أهلية بين السنة الشيعة

الانتقاد/ اقليميات ـ العدد 1138 ـ2/12/2005
بغداد ـ "الانتقاد"
لم يتوقف نحيب أُم جبار طيلة ساعة ونصف الساعة التي قضتها مع حشد من افراد عائلتها وأقاربها وجيرانها في مقبرة مدينة النجف الاشرف، حيث دفن جثمان ولدها محمد ابن الأربعة وعشرين ربيعا، الذي قضى في التفجيرات التي استهدفت حسينيتين في مدينة خانقين (150 كم شمال شرقي بغداد) ظهر يوم الثامن عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري.
وعبثا حاولنا التحدث اليها عن المأساة التي ألمّت بمدينة خانقين وبها على وجه الخصوص في ذلك اليوم الذي أطلق عليه أبناء المدينة "الجمعة الدامية"، فحالتها المزرية لم تكن تسمح لها بأن تتحدث بهدوء وبلا انفعال وبكاء وعويل.
وحينما كان الجمع الزائر لقبر الشاب المرحوم محمد يهم بصعود الباصات الصغيرة التي كانت متوقفة بانتظارهم في مكان قريب، استوقفْنا رجلا في عقد الأربعينيات بدا عليه الإنهاك والتعب النفسي وليس الجسدي، وقد تبين انه من أعمام محمد.. وجهنا له عدة أسئلة حول العمليات الإرهابية التي استهدفت حسينيتي المزرعة والمهدي (عجل الله فرجه الشريف)، فقال: "ان ما حصل في يوم الجمعة وقبل صلاة الجمعة بوقت قصير كان من أفظع ما شهدته مدينتنا من مآسٍ، وقد استشهد أكثر من ثمانين شخصا وجُرح مئتان.. وذلك يذكرنا بجرائم القتل الجماعي التي كان ينفذها نظام صدام البائد بحق الناس المؤمنين الأبرياء".
ويسترسل الحاج أبو عبد الله عم المرحوم محمد قائلا: "أي مقاومة هذه التي تستهدف المساجد والحسينيات والمصلين والأطفال والنساء والشيوخ؟.. صدّقوني لم يكن هناك جندي أميركي واحد ولا من أي جنسية أجنبية اخرى، ولم يكن هناك أي من منتسبي الحرس الوطني أو الشرطة العراقية.. لماذا يأتي مثل هؤلاء الى بيوت الله؟".
وفي المدينة المنكوبة خانقين كانت مجالس العزاء قد أقيمت في أماكن عديدة، بعضها في المساجد وبعضها في البيوت وبعضها الآخر في خيم كبيرة واسعة تنصب عادة في الشوارع والأزقة لاستقبال المعزين.
واللافت في الأمر أن أكثر من مجلس عزاء أقيم على أرواح اثنين أو ثلاثة أو أربعة من ضحايا العمليتين الإرهابيتين، وأصحابها إما من أفراد عائلة واحدة أو جيران أو أقارب.
ففي خيمة كبيرة يتجاوز طولها خمسة عشر مترا كان الزحام شديدا للغاية، إذ كانت تدخل حشود وتخرج حشود أخرى في الوقت نفسه، وأصوات الدعوات لقراءة سورة الفاتحة تتداخل مع صوت قارئ القرآن الكريم الذي كان ينطلق من عدة مكبرات صوت مرتبطة بجهاز تسجيل كبير.
ومجلس العزاء هذا أقيم على أرواح ثلاثة أشخاص، شقيقان هما سلام (35 عاما) وعباس (29 عاما)، وابن خالتهما عمار (18 عاما)، وهؤلاء الثلاثة لقوا حتفهم معا عندما كانوا في طريقهم للمشاركة في مراسم صلاة الجمعة.
ويتساءل الشيخ الطاعن في السن الذي كان ضمن الاشخاص الذين يستقبلون المعزين: "ما الذي جناه هؤلاء الشبان الأبرياء حتى يموتوا بهذه الطريقة الوحشية الهمجية!.. لم يكونوا عملاء ولا جواسيس ولا سيئي الاخلاق".
شخص آخر من أبناء عمومة الشبان الثلاثة قال: "إن الذين يسمّون أنفسهم بالمقاومة لا يريدون الخير لهذا البلد ولا لأبنائه، لأنهم في الواقع ليسوا منه، وهم إما من بقايا شراذم نظام صدام البائد أو من الإرهابيين التكفيريين الذين لا ينتمون الى هذا الشعب الطيب المسالم".
فيما رأى أحد أشقاء سلام وعباس أن تفجيرات الحسينيات في خانقين وكل العمليات الإرهابية تتمحور حول هدف واحد ووحيد، ألا وهو إثارة التفرقة والفتنة الطائفية بين أبناء الشعب العراقي من السنة والشيعة، وبالتالي اندلاع حرب أهلية لا تبقي ولا تذر لو حصلت لا سمح الله.. والدليل على ذلك ان جماعات ما يسمى بالمقاومة التي لا تعلن عن هويات قادتها ولا عن أعضائها، لا يهمها سوى تدمير دور العبادة وحصد أرواح رجال الدين والناس المخلصين والأبرياء، سواء كانوا من الشيعة أو من السنة. بل ان ما يُسمى بـ"المقاومة" تعمد الى استهداف هذا الطرف مرة وذاك الطرف مرة أخرى، علّ ذلك يؤدي الى إشعال نار الفتنة بينهم حينما يوجه كل منهما أصابع الاتهام للآخر.
ويضيف شقيق الشهيدين سلام وعباس: "لا نقبل بأن يتصالح زعماؤنا وقادتنا مع هؤلاء الذين يستحلّون دماءنا ليل نهار ويوغلون في انتهاك حرماتنا ومقدساتنا".
وإذا كانت تفجيرات الحسينيات في خانقين تعد من العمليات الإرهابية التي حصدت أعدادا كبيرة جدا من أرواح الابرياء، وخصوصا من أبناء شيعة آل البيت عليهم السلام، فإن عمليات أخرى جاءت بعدها بفترة وجيزة حصدت أعدادا اخرى في منطقة جسر ديالي شرقي بغداد وقضاء المحمودية (30 كم جنوب بغداد)، ومحافظة الحلة ـ بابل (100 كم جنوب بغداد)، حيث بلغ عدد ضحايا تلك العمليات وفقا لإحصاءات غير رسمية لجهات صحية وأمنية حكومية مئة وخمسين شهيدا، وأكثر من ثلاثمئة وخمسين جريحا غصت بهم مستشفيات عديدة في المدن نفسها التي وقعت فيها التفجيرات وفي مستشفيات العاصمة بغداد ايضا.
وقد أتيح لنا ان ندخل مستشفى المحمودية الذي انفجرت سيارة مفخخة امام بابه الرئيسي بعد ايام قليلة من تفجيرات خانقين، وهناك كانت معالم وآثار الكارثة ما زالت ماثلة وتلقي بظلالها على اجواء المكان وفي نفوس ومشاعر الناس.. والتجوال في داخل أجنحة وصالات المستشفى جعل الصورة تبدو اكثر جلاءً ووضوحا، حيث الاعداد الكبيرة من المصابين والجرحى جراء التفجير الإرهابي، وكان الحديث مع بعض المصابين وأفراد من الكادر الطبي ـ لا سيما ان منهم من شاهد الكارثة بأم عينه ـ ذا شجون، حتى ان البعض منهم لم يتمالك نفسه فأجهش بالبكاء.
ويشير الطبيب المقيم (ع. س. ك) ـ الذي طلب لأسباب خاصة حسب قوله عدم التصريح باسمه ـ الى انه لم يكن من بين الضحايا (الشهداء والجرحى) عسكريون سوى عدد من افراد حماية المستشفى الذين لا يرتبطون لا بوزارة الداخلية ولا بوزارة الدفاع، ولا تربطهم أي صلة بقوات الاحتلال.
ويضيف هذا الطبيب: ان ما شاهدته جراء ذلك العمل يجعلني أقول دون تردد: ان ذلك اجرام بكل ما في الكلمة من معنى، وإلا فماذا يعني ان يُقتل عشرات الاشخاص بلا أي ذنب اقترفوه.
أما أحمد عباس (49 عاما) الراقد في المستشفى اثر تعرضه لحروق وكسور في مواضع عديدة من جسده فقال: "إنني صاحب سيارة أجرة، وكنت قد جلبت امرأة عجوزا بصحبة ولدها الى المستشفى وبقيت في انتظارهما بناءً على طلبهما، وما هي الا دقائق حتى وقعت الكارثة، ولا أعلم ما حل بتلك المرأة العجوز وولدها.. أدعو الله ان يكونا بخير".
هذا جزء من صورة المشهد المأساوي العام في العراق، الذي رسمته الجماعات الإرهابية بنفوسها الشريرة وأسلحتها المدمرة ودماء الأبرياء.