ارشيف من : 2005-2008

السجون السرية الأميركية للتعذيب:"تغيير راديكالي وعميق في المبادئ السياسية والقيم الأخلاقية"

السجون السرية الأميركية للتعذيب:"تغيير راديكالي وعميق في المبادئ السياسية والقيم الأخلاقية"

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1137 ـ 25/11/2005‏

توفيق المديني‏‏

منذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، اعتبر جورج بوش أن الحرب على الإرهاب تبرر التخفيف من بعض الواجبات الأخلاقية للقانون الدولي.‏‏

وبعد بضعة أيام من بدء الحرب الأميركية على أفغانستان، منح الرئيس الأميركي جورج بوش وكالة المخابرات المركزية الأميركية السي.آي .إيه سلطات واسعة لنقل المشتبه بهم في أعمال إرهابية إلى الخارج، وعلى أساس هذه القاعدة ظهرت "السجون السرية" للسي .آي .إيه.‏‏

وكانت صحيفة "الواشنطن بوست" أكدت أن وكالة الاستخبارات أرسلت أكثر من مئة من المشتبه بهم تم اعتقالهم بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 إلى شبكة سرية من السجون حملت اسم "المواقع السوداء" وتقوم بتمويلها الوكالة الأميركية في أوروبا الشرقية ودول أخرى، خصوصاً تايلندا وأفغانستان.‏‏

وحسبما كشفته صحيفة "الواشنطن بوست"، تعتقل السي .آ ي .إيه. القيادات المهمة لتنظيم "القاعدة" ـ ثلاثين شخصاً في المجموع العام ـ في سجون سرية في الخارج.‏‏

وتقع هذه السجون السري في بلدان اوروبا الشرقية في قواعد سوفياتية سابقة. هذه المعلومات التي كشفتها "واشنطن بوست" لم تنفِها السلطات الأميركية. واعتبر السيد ستيفان هادلي، المستشار في الأمن القومي الأميركي بصدد هذه السجون:‏‏

"إن واقع كونها سرية، بمقدار ما هي موجودة، لا يعني أن التعذيب يمكن أن يسمح به".‏‏

وقد نفت كل من بولندا ورومانيا الحليفين الوفيين للولايات المتحدة الأميركية في الحرب ضد ما يسمى الإرهاب، بشكل قاطع يوم الخميس 3 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، الشكوك التي عبرت عنها في اليوم عينه منظمة هيومان رايتس ووتش الأميركية المدافعة عن حقوق الإنسان، والتي مفادها أن هذين البلدين يضمان على أراضيهما سجونا سرية تابعة لوكالة المخابرات المركزية الأميركية السي آي.إيه. من أجل استجواب أشخاص متهمين بالانتماء إلى تنظيم "القاعدة"، وإخضاعهم للتعذيب.‏‏

هذان البلدان المتهمان، والعضوان في الحلف الأطلسي، كانا في أوروبا من أشد المتحمسين للغزو الأميركي للعراق مع بداية 2003، ووقّعا، بفاصل زمني ببضعة أيام، على رسالتين تطالبان بالتدخل المسلح ضد نظام صدام حسين. وأرسلا قوات إلى العراق، على الضد من رأي شعبيهما.‏‏

أما بولندا، فهي تقر اليوم بسحب قواتها من العراق مع بداية العام المقبل، حيث كانت تقود واحدة من المناطق الأمنية الثلاث. ولكنها تظل وفية للولايات المتحدة الأميركية، التي تعتبر في فرسوفيا الضامن الجيد لأمنها الخارجي منذ نهاية الهيمنة السوفياتية.‏

وكانت جمهورية تشيكيا الوحيدة التي أقرت بأنها رفضت طلبا أميركيا لإنشاء سجن ينقل إليه معتقلون من قاعدة غوانتانامو.‏

ومع ذلك، نفت كل من هنغاريا، وسلوفاكيا، وتشيكيا، وبلغاريا، أن تكون سمحت بإقامة سجون سرية للسي.آي.إيه على أراضيها، في حين أن تقرير صحيفة الواشنطن بوست الأميركية يؤكد أن السي.آي.إيه تستجوب أحد المعتقلين المهمين من تنظيم القاعدة في إحدى القواعد السوفياتية الموجودة في أوروبا الشرقية.‏‏

لقد أثارت قضية "السجون السرية" نقاشا حذراً داخل المفوضية الأوروبية، التي لم تقم دعوى على أساليب التعذيب التي تمارس ضد سجناء غوانتنامو، وهي على ما يبدو لا تريد إدانة مبدأ "المواقع السوداء"، حيث يتم اعتقال "الإرهابيين" المشتبه بهم. فهي تتناقش بانتظام مع وزير العدل الأميركي، ألبرتو غونزاليس، من دون أن تنتقد رأيه، أن الإرهاب حالة استثنائية يهمل قواعد القانون الدولي الإنسانية.‏‏

وكان الناطق الرسمي باسم فرانكو فراتيني، المفوض الأوروبي المكلف بالعدل والشؤون الداخلية، أشار إلى أن المفوضية الأوروبية في بروكسيل "ستقوم بأبحاث على مستوى تقني". وتستبعد المفوضية في الوقت الحاضر "أي إجراء سياسي".‏‏

وتزايدت الشكوك لدى أوساط مختلفة في الولايات المتحدة وأوروبا إزاء لجوء الاستخبارات الأميركية إلى ترحيل المتهمين في قضايا "الإرهاب" إلى سجون سرية خارج الأراضي الأميركية لاستجوابهم وإخضاعهم للتعذيب.‏‏

وآخر البلدان التي طالتها تلك الاتهامات والشكوك النرويج والسويد والمغرب وإسبانيا, وكانت سبقتها المجر وإيطاليا ورومانيا وبولندا وألمانيا.‏‏

وفي هذا الصدد أعلنت الحكومة النرويجية يوم الأربعاء 17 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري عقد اجتماع مع السفير الأميركي لتحديد ظروف هبوط طائرة في أوسلو في 20 يوليو/ تموز الماضي، بعدما ذكرت وسائل إعلام محلية أن الاستخبارات الأميركية استخدمتها لنقل سجناء إسلاميين.‏

وفي السويد, تحدثت وكالة الأنباء المحلية "تي تي" عن هبوط طائرتين على الأقل للاستخبارات الأميركية تقلان سجناء عامي 2005 و2002, إحداهما توجهت مرارا إلى قاعدة غوانتانامو الأميركية في كوبا.‏‏

وفي المغرب, أكدت مجلة "لوجورنال" الأسبوعية نقلا عن عنصر سابق في الاستخبارات المغربية أن المغرب "ساهم مباشرة في برنامج سري للتعذيب وضعته الاستخبارات الأميركية, إذ أن طائرات استأجرتها "سي آي إي" قامت على الأقل بعشر رحلات داخل البلاد من كانون الأول/ديسمبر 2002 إلى شباط/ فبراير 2005.‏

وفي إسبانيا, أوردت صحيفة "إيل بايس" نقلا عن تقرير للحرس المدني أن أربع طائرات استخدمتها الاستخبارات الأميركية لنقل معتقلين إلى سجون سرية هبطت على الأقل عشر مرات في بالما دي مايوركا عامي 2004 و2005.‏‏

وفي واشنطن نفى متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية تلقي أسئلة رسمية من الحكومة الإسبانية حول هذا الموضوع. ومن جانبه أصر مجلس الشيوخ الأميركي على أن يقدم رئيس الاستخبارات معلومات دقيقة عن السجون السرية التي أنشأتها "سي آي أي" وأماكن وجودها.‏‏

وفي ألمانيا, فتح تحقيق حول قيام عناصر الاستخبارات الأميركية في شباط/ فبراير 2003 بخطف المدعو أبو عمر في إيطاليا, وهو إمام سابق نقل إلى قاعدة رامشتاين الأميركية جنوب غرب ألمانيا قبل أن يتم اقتياده إلى مصر.‏

وفي إيطاليا, طلبت النيابة في ميلانو تسليم 22 من عناصر الاستخبارات الأميركية يشتبه في مشاركتهم في خطف أبو عمر الذي كان يخضع لتحقيق إيطالي في إطار مكافحة ما يسمى الإرهاب.‏‏

من جهة أخرى دعا المقرر الخاص للأمم المتحدة حول التعذيب مانفريد نوفاك الاتحاد الأوروبي إلى إجراء تحقيقات عالية المستوى حول مجمل هذه الاتهامات. وأعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنها تطالب الولايات المتحدة منذ عامين بمنحها إذناً لزيارة معتقلين سريين في الخارج "في إطار ما يسمى الحرب على الإرهاب", ولكن من دون جدوى.‏‏

لقد حث الجدل الدائر في الولايات المتحدة الأميركية الديمقراطيين الأميركيين على معاودة الهجوم ضد ممارسات التعذيب ـ المصورة في قاعدة غوانتنامو تجاه المشتبه بهم في أعمال إرهابية ـ من خلال التصويت في مجلس النواب على تعديل لقانون النائب الجمهوري جون ماكاين.‏

إذ يقترح هذا النص، الذي أقره مجلس الشيوخ، أن كل معتقل تحت الإدارة الأميركية سيكون في منجى "من الممارسات المرعبة، اللاإنسانية أو المنحطة". ويعارض البيت الأبيض مثل هذا التعديل القانوني.‏‏

إن الولايات المتحدة الأميركية، التي ترفع راية الدفاع عن حقوق الإنسان والقيم الأخلاقية والديمقراطية في العالم كله منذ وقت طويل، ها هي اليوم تطالب بلداناً أوروبية، أعضاءً في الحلف الأطلسي، وفاعلين في الإتحاد الأوروبي، أن تقوم نيابة عنها بـ"الأعمال القذرة" ضد المعتقلين المصدّرين إلى أراضيها.‏

إننا لا يمكن أن نتصور، وبدرجة أقل أن نسلّم، إذا ما تأكدت، أن مثل هذه الممارسات من التعذيب، ليست فقط غير شرعية من وجهة نظر القانون الدولي، بل هي مدانة أخلاقياًَ.‏‏

وهكذا، أسف الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر بقوله انه منذ وصول الرئيس بوش إلى البيت الأبيض: "حصل تغيير راديكالي وعميق في المبادئ السياسية والقيم الأخلاقية" للولايات المتحدة الأميركية.‏‏

أما وزيرة الخارجية "كونداليزا رايس" ، المتسرعة في الدفاع عن الديمقراطية المصدرة إلى الخارج، هل يمكن لها أن تقبل أن تلتمس الولايات المتحدة الأميركية من بعض بلدان الإتحاد الأوروبي مخالفة القانون الدولي والأخلاق؟ إزاء القارة العجوز، يعبر مثل هذا الموقف عن الغطرسة، والاحتقار للآخر.‏‏

2006-10-28