ارشيف من : 2005-2008
النموذج الفرنسي

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1135 ـ 11/11/2005
فرنسا النموذج.. التقدم والحرية والمساواة العلمانية التي تؤمن الاخوة الكاملة بين المواطنين بلا تمييز حسب الدين أو العرق أو الجنس..
هكذا كانت الصورة الظاهرية والدعاية الأسطورية لذلك البلد المثالي.
الآن ذاب ثلج الدعاية وظهر مرج فرنسا على حقيقته: سنوات من الاهمال المنظم لملايين من ابناء البلد لأنهم من أصول.. افريقية... وإسلامية، برغم ان هؤلاء فرنسيون بالمولد، ومن الجيل الرابع أو الخامس، حيث قاتل أجدادهم منذ الحرب العالمية الاولى دفاعاً عن "تراب فرنسا" و"علم فرنسا" و"دستور الأمة" حين كان كثيرون من الفرنسيين غارقين في سكرهم وخماراتهم عندما اندلعت الحرب واحتلت فرنسا مرتين، كثيرون من هؤلاء "المشاغبين" انحدروا من ابناء الفرقة الاجنبية التي ضمت سنغاليين ومغاربة وجزائريين، وكانت القوة الضاربة الرئيسية للدولة الاستعمارية الفرنسية في اتجاه العالم، أو ممن قدموا خدمات جلى للدولة في لحظة حاجتها اليهم في المصانع والمزارع بعد الحربين الاولى والثانية، حيث كان اقتصاد البلاد أشد حاجة الى يد عاملة رخيصة الثمن وتقنع بالقليل سكناً وغذاءً وطبابة.
وحدة التراب الفرنسي وازدهار الاقتصاد، اي عزة السياسة والرخاء، ساهم بهما بفعالية أجيال المهاجرين هؤلاء .. لكنهم عوملوا بازدراء وإهمال كمواطنين من الدرجة الثانية، وطلب منهم الاندماج الثقافي والسياسي كمواطنين "مشبوهين"، حتى حجاب نسائهم "مشبوه" بالعداء لقيم الجمهورية العلمانية. وإزاء ذلك لا حرية ولا مساواة، بل عليهم خلعه لاثبات عدم خيانة الجمهورية والولاء الخالص لقيمها.
يندر ان تجد مسلماً أو فرنسياً من أصل افريقي في مركز حساس، بل حتى الوظائف الدنيا محتكرة للفرنسي الأشقر غير المسلم، فإذا شغرت منه لاذت الى المواطن من الدرجة الثانية، وبسبب ذلك كثيراً ما اشتكى فرنسيون من رفض طلبات عمل أو دراسة أو الانخراط في مشاريع معينة لمجرد ان اسم مقدم الطلب هو محمد أو عبد الله أو عمر او ما شابه، وليس جاك او برنار او ميشال او نيقولا، حتى ان كثيراً من ابناء المسلمين الفرنسيين تسموا بأسماء "مميزة" غير نافرة دينياً حتى لا يمارس بحقهم تمييز لمجرد دلالة الاسم الاسلامي برغم حملهم كفاءات علمية او مهنية عالية جداً.
الدستور شيء والممارسة الاجتماعية شيء آخر. الدستور تحدث عن مساواة، أما السلوك الاجتماعي لمؤسسات الدولة الرسمية او القطاع الخاص فملؤه التمييز والاقصاء واهمال الافراد او الجماعات الاخرى غير المعتبرة "درجة اولى"، اي مواطن أصلي.
يقول المفكر الفرنسي ريجيس دوبرييه ان الصراع في المجتمع الاوروبي هو "ديني" في عمقه، لكنه يمارس صراعاته العقائدية بوسائل "سياسية" عامة وبلغة غير "دينية". هكذا يدفعنا هذا التحليل الصائب الى رؤية الاشياء ليس بالمظاهر، بل خلف أكوام النظريات العامة، لنصل الى حقائق الصراع الدائر في العمق.
لا يحلم مسلم فرنسي بالوصول الى رئاسة الجمهورية، لكن ذلك غير مسجل في الدستور، ولا في برنامج الاحزاب، ولا يحلم حتى بالوصول الى رئاسة الحكومة او رئاسة اي حزب على مستوى وطني، ولا الى رئاسة بلدية كبرى مثل باريس حتى ولو اصبح عدد مسلمي فرنسا عشرة ملايين بعد فترة، وليس خمسة ملايين كما هو الآن.
منّ شيراك وحزبه على مسلمي فرنسا بتعيين فرنسي من أصل جزائري وزيراً كلف حقيبة الدمج الاجتماعي. وهنا المشكلة اذ ان نموذج الدمج الفرنسي كان فاشلاً. لأنه تضمن نموذجاً مخفياً هو الاقصاء، ونزع الانتماء الثقافي للجاليات كشرط للدمج.
مع كل ذلك لا يمكن النظر بعين واحدة الى النموذج الفرنسي الذي فيه كثير من الايجابيات، لكنها للأسف لم تمنع الكارثة، كارثة التمييز العنصري الذي اكتشفناه في أحمق خلق مظاهر النموذج الخادع.
ما يحصل في باريس والمدن الأخرى اخفاق لهذا النموذج الذي لم يقدم للثائرين عليه الا عكس شعارات الثورة الفرنسية، فقد عاشوا ما هو أقرب الى اللاأخوة واللامساواة واللاحركة في بلد الشعارات الثلاثة: أخوة، مساواة، وحرية.
د.حسين رحال