ارشيف من : 2005-2008
تركيا والاتحاد الأوروبي:خطوة متعثرة في الرحلة الشاقة نحو المجهول

الانتقاد/ دوليات ـ العدد 1130 ـ 7 تشرين الاول / اوكتوبر 2005
بصعوبة بالغة ووسط المخاوف التي أثارتها أكثر من جهة أوروبية في أجواء الانتكاسة التي تعرضت لها مسيرة التوحيد الأوروبي جراء التصويت السلبي على مشروع دستور الاتحاد من قبل كل من فرنسا وهولندا، جرى التوصل في كانون الأول/ ديسمبر الماضي إلى صيغة اتفاق على إطلاق المفاوضات مع تركيا بشأن انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
وكان يوم الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر 2005 قد حُدد موعداً لإطلاق تلك المفاوضات التي أسهم في تخفيف مخاوف الأوروبيين بشأنها، كونها ستتواصل مدة عشر سنوات على الأقل، تخضع خلالها تركيا للمزيد من عمليات الإصلاح بعد أن انتهت من تحقيق حدها الأدنى كشرط للشروع في مفاوضات الانضمام.
لكن الموعد المذكور سبقته نقاشات دامت عدة أسابيع بين سفراء بلدان الاتحاد في بروكسل، وأفضت إلى الاصطدام بفيتو نمساوي على فكرة انضمام تركيا إلى الاتحاد. وتعود الممانعة النمساوية إلى أسباب عديدة، في طليعتها الخوف من الإخلال بالمعادلة السكانية في أوروبا المسيحية نتيجة انضمام 70 مليون تركي مسلم، الأمر الذي يعبّر عنه تحت اسم الفروق الثقافية التي يعتبرها 73 في المئة من النمساويين و54 في المئة من الأوروبيين حائلاً دون الانضمام وفقاً لآخر استطلاعات الرأي. تضاف إلى ذلك على حد تعبير وزيرة الخارجية النمساوية أورسولا بلاسنيك، هواجس الأوروبيين حول قدرة أوروبا ـ التي تتعرض لأكثر من أزمة اقتصادية واجتماعية، عدا الأزمة المتمثلة بعدم القدرة على إقرار مشروع الدستور ـ على استيعاب تركيا الفقيرة نسبياً، في الوقت الذي سيكون عليها فيه أيضاً أن تفي بالتزامات مالية ضخمة تجاه البلدان الفقيرة في أوروبا الشرقية والوسطى التي انضمت مؤخراً إلى الاتحاد، والتي لا يزال بعضها كرومانيا وبلغاريا، ينتظر دوره في الانضمام الوشيك.
ولمزيد من الدقة ينبغي القول إن النمسا لا تمانع في بدء المفاوضات في موعدها المحدد، كما لا تستبعد فكرة الانضمام "يوماً ما" إذا ما وفت تركيا بجميع التزاماتها، وإذا ما استشعرت أوروبا في نفسها القدرة على استيعابها.
وبانتظار ذلك اليوم، تستفيد النمسا من الخاصية المطاطة لصيغة اتفاق كانون الأول/ ديسمبر، التي نصت على أن الهدف المشترك للمفاوضات هو الانضمام من خلال عملية مفتوحة وبلا ضمانات، وعند الفشل لا بد من إيجاد صيغة تضمن إقامة روابط قوية جداً بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، لتقترح بدلاً من الانضمام الكامل بديلاً انتقالياً على شكل شراكة مميزة بين الطرفين. وتلك الشراكة هي بالضبط ما يرفضه الطرف التركي.
ومن جهة أخرى كانت النمسا قد اشترطت لتغيير موقفها من الموضوع التركي، تلبية مطلبها الأخير المتعلق بتمكين جارتها كرواتيا من الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي قوبل بالرفض الأوروبي الحاسم في آذار/ مارس الماضي، بسبب التجاوب غير الكافي من طرف زغرب مع محكمة الجزاء الدولية وما تجريه من ملاحقات بحق مجرمي الحرب في بلدان الاتحاد اليوغوسلافي السابق. لذا عادت النمسا مدعومة هذه المرة من كل من فرنسا والدنمارك وقبرص، إلى طرح المطلب الكرواتي مجدداً في اجتماعات وزراء خارجية الاتحاد التي عُقدت طيلة يومي الأحد والاثنين الماضيين، في نوع من السباق السريع مع الوقت بهدف بدء المفاوضات مع تركيا في الموعد المحدد، وإزالة الإشكالات المتعلقة بالجانب الكرواتي.
وقد جاء الرد التركي عنيفاً جداً على الممانعة النمساوية وعلى بعض المواقف الأوروبية التي أظهرت ميلاً إلى الخروج بتسوية مرضية عبر صيغة الشراكة المميزة بديلاً للعضوية الكاملة.
وكان رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان واضحاً في تأكيد عدم وجود خيار ثالث: إما أن تبدأ مفاوضات الانضمام الكامل في موعدها المحدد، وإما ألا تبدأ أبداً، مع التشديد على أن تجري هذه المفاوضات تحت العنوان المذكور، وليس كيفما اتفق.
وإذا كان الأتراك قد هاجموا موقف النمسا عندما حذروا سفيرها في أنقرة من الانعكاسات السلبية لسياستها على انتخاباتهم المقبلة، فإنهم لم يتوانوا في تقريع الأوروبيين جميعاً، حيث وضعوا أوروبا ـ على لسان أردوغان ـ أمام خيار أن تثبت أنها ناضجة سياسياً بما يكفي لكي تصبح قوة عالمية، أو أن تتحول إلى مجرد نادٍ مسيحيٍ مغلق.
ولم يخل الموقف التركي من الموازنة بين الميل إلى الموادعة عبر التعهد بمواصلة تنفيذ الإصلاحات الديمقراطية والميل إلى التهديد شبه المكشوف، عندما ذكر أردوغان في سياق التعليق على ما يمكن أن تفعله تركيا اذا انتكس مشروع الانضمام، أن بلاده ستستمر في الكلام ليس مع الأتراك وحدهم، بل مع العالم كله، من "روسيا إلى فلسطين". والواضح أن هذه العبارة تذكر ليس فقط بالدور البارز لتركيا في حماية أوروبا خلال الحرب الباردة عبر موقعها المتقدم في الحلف الأطلسي، وليس فقط بالمساعي التركية في التقريب بين الإسرائيليين وبعض الجهات العربية والإسلامية، بل إنها تلمح إلى إمكانية فتح صفحات أخرى مع الجار الروسي الذي لا يزال لاعباً فاعلاً على المستوى الدولي، خصوصاً في أوروبا الشرقية والبلقان والقفقاس وأواسط آسيا، حيث يمكن للقارّة الحضارية واللغوية التركية أن تلعب أدواراً حساسة في المنطقة الممتدة من حدود منغوليا شرقاً إلى حدود النمسا غرباً.. وكذلك مع الجيران العرب، حيث لا يمكن إغفال تأثير أي تغير في السياسات التركية تجاه المسألتين الفلسطينية والعراقية.
والأكيد أن الأوروبيين يدركون كل ذلك، وهو الأمر الذي انعكس في كلام خافيير سولانا الذي اعتبر أن وجود تركيا إلى جانب أوروبا يظل أفضل من وجودها "لا ندري أين"، في كلام فسره المراقبون على أنه إشارة إلى العمق الإسلامي لتركيا وما قد تنفتح عليه من توجهات أصولية.
كما أن أكثر من مسؤول أوروبي لفت إلى الأهمية التي تمثلها بالنسبة إلى أوروبا تركيا العلمانية والليبرالية، مقابل ما قد تعنيه تركيا فيما لو انزلقت بتأثير عدم التجاوب الأوروبي معها، باتجاه القومية أو الأصولية.
كل ذلك كان كافياً ـ إضافة إلى كوندوليسا رايس التي اتصل بها أردوغان في عزّ احتدام الأزمة واستحصل منها على تصريحات حثت الأوروبيين على المضي قدماً بطريقة إيجابية في التعامل مع الملف التركي ـ كان كافياً لإبرام تسوية أعادت المياه إلى مجاريها في الملفين التركي والكرواتي، بعد أن تعهدت زغرب بتحسين سلوكها عاجلاً إزاء محكمة الجزاء الدولية.
وبذلك يمكن القول إن تركيا قد خطت خطوة جديدة على الطريق المتعرج الطويل الذي سيكون محفوفاً بالكثير من المفاجآت والألغام.
عقيل الشيخ حسين