ارشيف من : 2005-2008
المصالحة التي تشترط على السياسيين إدارة ظهرهم للسياسة

الانتقاد/ عربيات ـ العدد 1130 ـ 7 تشرين الاول/ اوكتوبر 2005
توفيق المديني
صوّت الجزائريون بنعم ساحقة على "ميثاق السلم والمصالحة الوطنية"، في الاستفتاء الذي جرى يوم الخميس 29 أيلول/ سبتمبر الماضي، والذي اقترحه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لطيّ العقد الدامي الذي عاشته الجزائر بين عامي 1992 و2003، وأسفر عن أكثر من 150 ألف قتيل وآلاف المفقودين (18 ألفاً في إحصاء الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان). وبهذا التصويت يكون الجزائريون قد منحوا الرئيس عبد العزيز بوتفليقة تزكية شعبية لم يحصل عليها خلال إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثانية في نيسان/ أبريل 2004، ما يعزّز مركزه ويسمح له بقيادة البلاد بكل حرية من دون اللجوء في كل مرة إلى التنسيق مع القوى الخفية في السلطة أو الدائرة في فلكها لتمرير مشاريعه.
لقد اتضح أن التوازنات داخل السلطة السياسية والعلاقة مع المؤسسة العسكرية، فرضتا على الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أن يقدم مشروع المصالحة الوطنية بوصفه نسخة مطورة وأوسع من قانون الوئام المدني الصادر في أيلول/ سبتمبر 1999، وأقل من مشروع العفو الشامل. وكان الرئيس الجزائري جاداً في تحقيق المصالحة الوطنية في الجزائر، وإحداث تطورات في مجمل القطاعات الحيوية في الدولة والمجتمع. وهذه الرغبة الجادّة حظيت برضا وقوبلت بترحيب واسع وتأييد بصورة لا سابق لها ببرنامجه الوفاقي "الوئام" الوطني، كفصل من ذلك المشهد الطويل غرضه المصالحة الدائمة.
وقد رحبت الطبقة السياسية المساندة لبو تفليقة وأحزاب الائتلاف الحكومي: حزب جبهة التحرير الوطني وبعض الإسلاميين (عبد الله جاب الله زعيم حركة الإصلاح الوطني) وبعض قادة الإنقاذ (أمثال رابح كبير ومدني مزراق) الذين يؤيدون الميثاق، كما يؤيده بعض اليسار (لويزة حنون رئيسة حزب العمال) بإقرار المواطنين لمشروع السلم والمصالحة.
بينما امتعضت المعارضة المكونة من قوى يسارية (مثل حسين آيت أحمد الزعيم التاريخي لجبهة القوى الاشتراكية) وقوى إسلامية (مثل عباسي مدني زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة) وشخصيات بارزة في حزب جبهة التحرير الوطني مثل عبد الحميد مهري، وشخصيات قيادية في المجتمع المدني مثل علي يحيى عبد النور رئيس الرابطة الوطنية لحقوق الإنسان، من نتائج الاستفتاء، خاصة حسين آيت أحمد الذي وضعه بمنزلة " تسونامي توتاليتاري أتى على كل ما هو تعبير معارض"، مضيفاً انها "عمل حربي إضافي يستهدف المجتمع". وقال: إن هذه النتائج كشفت الطبيعة الحربية الحقيقية لذهنيات الأجهزة التي تهيمن على الجزائر والطموحات اللامحدودة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي يستخدم تطلع الجزائريين الشرعي إلى السلم والمصالحة للمبايعة".
في الواقع يجب الاعتراف بأن حلم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من هذا الاستفتاء يكمن في تعزيز سلطته الشخصية ودخوله التاريخ من بابه الواسع، والتحرر من وصاية المؤسسة العسكرية عن طريق استعادة استقلالية القرار السياسي في البلاد من هيمنة الجيش، حتى لو تطلّب ذلك البقاء في الحكم مدى الحياة، ولكن ليس من أجهزة الأمن العسكري التي تبقى حاضرة بقوة في كل دواليب الدولة الجزائرية، بل وفي كل تفاصيل الحياة السياسية العامة في الجزائر، التي يبدو أنه عقد معها اتفاقاً باعتبارها القوة السياسية الأولى في البلاد التي تشكل الآن ثقلاً موازناً للرئيس. هناك حقيقة يجب الإشارة إليها، وهي أن الرئيس بوتفليقة كان في أشد الحاجة لهذا الاستفتاء وفي هذا الوقت بالذات، لأنه لم يفعل شيئاً خلال ولايته الرئاسية الأولى. فالحقيقة التي لا غبار عليها أن الأمن والسلم الذي تحقق كان أحد ثمار الهدنة التي وقعها الجيش الجزائري مع ما يسمى بـ"الجيش الإسلامي للإنقاذ" عام 1997، وما فعله الرئيس بوتفليقة حين جاء إلى قصر المرادية (الرئاسة) رئيساً لكل الجزائريين، أنه منح الغطاء السياسي للهدنة، وهذا الكلام أكده في العديد من المرات ضباط من الجيش وسياسيون في مناسبات مختلفة. وها هي 18 شهراً من الولاية الرئاسية الثانية لبوتفليقة تمر من دون أن يتمكن من تجسيد مختلف الوعود التي أطلقها خلال ولايته الأولى، وكل ما كان ينتظره من الشعب هو تزكية مشروعه تزكية مطلقة، حتى يقول بعد ذلك إن هذا ما أراده الجزائريون.
إن ما يطمح بوتفليقة إلى تحقيقه فعلاً في المستقبل المنظور هو استفتاء آخر في 2008 لتعديل الدستور والترشح لولاية رئاسية ثالثة، ويكون عمره آنذاك 71 عاماً.
هل سيرفع بوتفليقة حال الطوارئ المعمول بها منذ توقيف المسار الانتخابي في 1992؟ وهل سيفتح المجال السياسي والإعلامي أمام قوى المعارضة الحقيقية في البلاد باعتبار أن الديمقراطية والحرية شرطان أساسيان لأي تنمية شاملة؟
إن المصالحة الوطنية في الجزائر يجب أن تقود إلى إيجاد حل سياسي شامل وعادل للأزمة الجزائرية بأبعادها المختلفة، خاصة البعد المتعلق بالموقف من هوية الجزائر العربية الإسلامية ومكوّنات شخصيتها. وإضافة إلى ذلك هناك المسائل المتعلقة بملفات المفقودين والمفصولين من وظائفهم خلال الأزمة بسبب انتمائهم السياسي، وملف المعتقلين السياسيين وملف المهجرين وملف المسلحين، ثم ملف عناصر الأمن الذين تورطوا في الأزمة وقاموا بممارسات خارج نطاق القانون. ثم هناك رد الاعتبار لجبهة الإنقاذ الاسلامية من خلال السماح لقادتها عباسي مدني وعلي بلحاج بأن يكونا كغيرهما من المواطنين المتمتعين بمواطنة وحقوق وواجبات كاملة ومتساوية.. إن تسوية هذه الملفات بمجموعها تقود إلى المصالحة الوطنية الحقيقية.
وبهذا المعني نفهم إصرار رجل مثل حسين آيت أحمد علي الربط بين مشروع بوتفليقة في المصالحة الوطنية (وهنا يعتبر آيت أحمد أنّ أهداف المشروع الكبرى هي تبييض الجنرالات بما يسمح لاستمرار تحالفهم مع بوتفليقة، تمهيداً لتعديل الدستور بما يتيح للرئيس الحالي عدداً غير نهائي من الولايات الرئاسية)، وبين ما يحظى به الحكم الحالي من تأييد فرنسي وأميركي صريح، خاصة بعد أن رفض بوتفليقة أي عودة للجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى العمل السياسي الشرعي. وهو ما ترى قيادة الجبهة الإسلامية أنه يتناقض مع تعاليم الديمقراطية وحرية التعبير التي زعمت السلطة الجزائرية أنها كانت سباقة في إرسائها منذ نهاية الثمانينيات.
والواقع أن مشروع المصالحة الوطنية الذي طرحه الرئيس بوتفليقة لم يخرج عن الإطار العام لتوجهاته السياسية الكبرى، فهو يرفض قيام دولة إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية، ويريد الإبقاء على الشكل العلماني للجمهورية الجزائرية. وخوف العسكر من "بعبع" الإسلاميين آتٍ مما يتصورونه أنه هشاشة التكوين السياسي للجزائريين، إذ يمكن لأي خطاب سياسي إغراؤهم إذا ما توافرت الدعاية الإعلامية اللازمة.
العارفون بطبيعة الدولة الجزائرية يعتقدون أن مشروع المصالحة الوطنية لن يسهم في تغيير هذه الطبيعة، اذ لا شك في أن الجزائر أصبحت نموذجاً لنمط من الدولة "الديمقراطية" المعذبة. ولفهم هذا المعطى يجب إدخال عامل مهم عادة ما يُتجاهل في التحاليل السياسية، سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى الجيبوليتيكي: ألا وهو التعذيب.
إن دولة جنرالات العسكر تحولت إلى نموذج يُحتذى به في الحرب العالمية ضد الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية. ففي رسالة أرسلها الرئيس جورج بوش إلى نظيره الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بتاريخ 3 تموز/ يوليو 2004 بمناسبة عيد الاستقلال، جاء ما يلي: "تستمر أميركا في الاعتماد على الجزائر بوصفها شريكاً في الحرب على الإرهاب، وكذلك في مهمتها العصيبة لنشر الديمقراطية والازدهار في العالم".
ولكن ما يهم الأميركيين ـ والفرنسيين ـ في "النموذج الجزائري"، هو أن المؤسسين له نجحوا في التستر على استخدام "ماكينة" الموت خلف واجهة "ديمقراطية" مقبولة. ففي محاولته بناء مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، ذكرت إدارة الرئيس بوش الجزائر بوصفها أحد الأنظمة "الأكثر ديمقراطية" في العالم العربي. وفي ضوء العلاقات الممتازة بين واشنطن والجزائر، يستمر هذا المشروع في تحقيق أهدافه بوضوح: تحرير المنطقة من الأنظمة المناهضة للولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني وتشجيع ديمقراطية الواجهة، من أجل قمع الشعوب بطريقة أفضل كما هو جارٍ الآن في تونس، كي لا تجازف بتصدير الاحتجاج إلى الغرب.
ذلك هو المنطق العميق للمحافظين الجدد الأميركيين خلف الوعد بتحرير الشعب العراقي من نظام ديكتاتوري.. وهو المنطق عينه أيضاً المتغير حسب مصالحه الخاصة. إنه منطق فرنسا الرسمية، برغم معارضتها الحرب الأميركية على العراق، لكنها تتقاسم مع واشنطن الميل عينه في التوليفة بين التعذيب وواجهة الديمقراطية في العالم العربي.