ارشيف من : 2005-2008

النظام السياسي الألماني: خلل بنيوي ينعكس أزمة سياسية

النظام السياسي الألماني: خلل بنيوي ينعكس أزمة سياسية

الانتقاد/ دوليات- 1129- 30 ايلول/ سبتمبر 2005‏

توفيق المديني‏

خلال عقود من الزمن ظل المشهد السياسي الألماني مستقراً، إذ كانت اللعبة السياسية التي يتبارى فيها ثلاثة أطراف هم: الديمقراطيون المسيحيون، والديمقراطيون الاشتراكيون، والليبراليون، بسيطة.. لكن خُلطت أوراق اللعبة هذه مع دخول حزب الخضر إلى البوندستاغ (البرلمان) عام 1983، وتعقدت أكثر بعد إنجاز الوحدة الألمانية عام 1990. وسيجعل ظهور حزب يساري معارض بصورة راديكالية ليدخل عنصراً خامساً، سيجعل تشكيل الأكثريات غاية في الصعوبة.‏

نتائج الانتخابات أدخلت ألمانيا في أزمة طالما حاولت جاهدة تفاديها.. إنها أزمة تشكيل التحالف العريض الذي سيحكم البلاد. علماً بأن ألمانيا عرفت أزمة حكم مماثلة من العام 1966 إلى العام 1969 في عهد المستشار كورت غيورغ كيسينجر، اذ شكلت هذه المرحلة "نقطة سوداء" في التاريخ السياسي الألماني.‏

وفي معرض تحليلهم لهذا الاستعصاء في تشكيل الحكومة الألمانية، يعتبر المحللون السياسيون في الغرب أن ألمانيا تعيش أزمة حكومية مرشحة لكي تدوم، وذلك جراء انفجار المشهد السياسي الألماني بوجود خمسة أحزاب سياسية، بل ستة، بينما جرت العادة في جمهورية ألمانيا الفيدرالية التي كانت عاصمتها بون، أن يعمل الجهاز الحكومي فيها بثلاثة او أربعة أحزاب. ثم إن ظهور حزب يساري متطرف هو حزب الاشتراكية الديمقراطية المنغرس بقوة في ألمانيا الشرقية، والذي يتمتع بكتلة نيابية يسارية مؤلفة من 54 نائباً، أسهم في إفشال يسار الوسط، وعرقل تشكيل تحالف متكون من يمين الوسط. فهو لا يبحث عن المشاركة في الحكومة، إذ إن أياً من الأطراف السياسية الألمانية لا تريد العمل معه رسمياً.. إنه يخلط الأوراق في اللعبة السياسية الألمانية.‏

وتكمن الخاصية الرئيسة لأزمة النظام السياسي الألماني في النزعة التماثلية بين وضع ألمانيا الحالي وجمهورية فرنسا الرابعة. لقد عرفت ألمانيا دائماً تحالفات حكومية بين الديمقراطيين المسيحيين والليبراليين، وبين الحزبين الكبيرين الديمقراطي المسيحي والديمقراطي الاشتراكي ـ مع "التحالف الكبير" من 1966 إلى 1969 ـ وبين الديمقراطيين الاشتراكيين والليبراليين، وأخيراً بين الديمقراطيين الاشتراكيين والخضر خلال السنوات السبع الأخيرة. وفي معظم الحالات هذه كان الناخبون يعرفون أنهم من خلال التصويت لمصلحة هذا الحزب أو ذاك سيحصلون على هذا التحالف الحكومي أو ذاك. إنهم يختارون عن خبرة، على نقيض ما كان يجري في فرنسا حتى سنة 1958، أو في إيطاليا. فالتحالفات الحكومية في هذين البلدين لا تتوقف على خيارات المواطنين قبل كل شيء، وإنما على التركيبات بين قيادات الأحزاب السياسية، إذ إن التحالفات لم تكن معلنة قبل الانتخابات، ولكن تُنسج لاحقاً.‏

وتخشى ألمانيا اليوم من السقوط في هذا الاعوجاج المؤسساتي، فالناخبون لم يحسموا بين التحالفين: أسود ـ أصفر من جهة، وأحمر ـ أخضر من جهة أخرى، اللذين يعرضان نفسيهما لانتخابهما مباشرة. بل إن قيادات الأحزاب السياسية هي التي أصبحت تقرر بدلاً منهم. وسوف تلعب مسائل الأشخاص دوراً مهماً أيضاً في نتيجة المفاوضات أكثر من البرامج.‏

وهناك تماثلية أخرى بين الوضع الألماني الحالي والوضع في الجمهورية الفرنسية الرابعة: لا شك في أن الألمان لن يكون لهم المستشار الذي صوّتوا من أجله. وبكل تأكيد هم لا ينتخبون رئيس الحكومة بواسطة الاقتراع السري المباشر، فلقب "المستشار المرشح" غير معترف به في الدستور الألماني. بيد أنه منذ عقد الستينيات، كان الاتجاه العام لشخصنة السلطة يساعد رئيس قائمة كل من الحزبين الكبيرين: الديمقراطي المسيحي أو الديمقراطي الاشتراكي، على المطالبة بالتصويت لمصلحة حزبه كي يترأس الحكومة، وليس من إمكانية لرئيس الجمهورية سوى التصديق على هذا الخيار.‏

وككل حياة سياسية في الأمم الديمقراطية، تحصل عدة أزمات في مسيرتها السياسية. ففي انتخابات عام 1961 وعد المستشار الألماني آنذاك كونراد أدناوار بتسليم رئاسة المستشارية في نصف ولايته إلى وزير اقتصاده لودويغ إيرهارد. وفي عام 1965 استُبدل بالتحالف بين الديمقراطيين المسيحيين والليبراليين "التحالف الكبير"، من دون استشارة الناخبين. وفي عام 1974 اضطر المستشار فيلي براند إلى تقديم استقالته على أثر فضيحة تجسس سكرتيرته لمصلحة السوفيات، ليخلفه المستشار هلموت شميت الذي حقق فوزاً انتخابياً كبيراً بعد سنتين من ذلك التاريخ.‏

ومع ذلك، وفي مجمل الأحوال، فالناخبون الألمان عندما يصوتون لحزب سياسي ما، فإنهم ينتخبون في الوقت عينه مستشاراً. بيد أنه في هذه المرة بات الأمر مختلفاً، إذ إن هناك عدة سيناريوهات لتحديد من هو المستشار المستقبلي لألمانيا، وهذا يعني إما أن شرودر وميركل سيتقدمان أمام البوندستاغ لكي ينتخب المستشار عن طريق الاقتراع السري المباشر، كما يريد ذلك القانون، ومن ثم يشكل المستشار المنتخب الحكومة، أو أن اسم المستشار ستقرره المفاوضات بين الأحزاب السياسية من دون علم المواطنين. وهنا تصبح ألمانيا مطالبة بإجراء إصلاحات حقيقية في نظامها السياسي، كي لا تسقط في شرك الجمهورية الفرنسية الرابعة.‏

2006-10-28