ارشيف من : 2005-2008
المظاهرات الأخيرة ضد استمرار الاحتلال في العراق: حالة من الإعياء والقلق تضرب المجتمع الأميركي

الانتقاد/ اقليميات دوليات- 1129- 30 ايلول/ سبتمبر 2005
"إرهابي" و"كذاب" و"مجرم".. تلك هي الصفات التي وُزعت على كل من بوش ورامسفيلد وبلير وشارون من قبل المتظاهرين الذين خرجوا السبت الماضي في (24-9-2005) مدة ثلاثة أيام، في لندن وواشنطن وسياتل وسان فرانسيسكو وغيرها من المدن الأميركية، لإدانة الحرب والمطالبة بسحب قوات الاحتلال من العراق، ولشجب سياسات العولمة الاقتصادية. شعارات منها أيضاً تلك التي طالبت برحيل بلير، أو وصفت بوش بأنه "كارثة مثل كاترينا"، وكلها واضحة في التعبير عن مدى السخط الذي تشعر به شرائح متزايدة الاتساع من المجتمعَين الأميركي والبريطاني، وكذلك من المجتمعات الغربية الأخرى، وإن تكن عواصم كباريس وروما ومدريد لم تشهد مظاهرات مماثلة، علماً بأن المواقف المعادية للحرب قد تكرست فيها منذ مظاهرات الاحتجاج المليونية التي شهدتها في 15 شباط/ فبراير 2003، قبل أيام من بدء الهجوم العسكري على العراق. وسواء تعلق الأمر بأعداد المشاركين في المظاهرات الأخيرة ـ مئة ألف في لندن، ومثلها في واشنطن وثلاثة أمثالها في سان فرانسيسكو ـ وهي أرقام أسهم في تدنيها النسبي انشغال المجتمع الأميركي بتداعيات الإعصارين كاترينا وريتا، أو بالغضب الذي عكسته الشعارات، فإنها تأتي مؤشراً جديداً يضاف إلى تدهور شعبية الإدارتين الأميركية والبريطانية.. على أن الحرب على العراق وما يرتبط بها من سياسات، قد خلقت وفقاً لما كتبه دافيد بروكس، كاتب الافتتاحيات في "واشنطن بوست"، حالة من المزاج العام تسودها عناصر ثلاث هي: الشعور بالإعياء والانفتاح على الحقيقة المرّة المتمثلة بفشل الغزو والقلق من الأكلاف المادية، إضافة إلى الكلفة البشرية، حيث تجاوز عدد الجنود الأميركيين الذين سقطوا في العراق منذ بداية الاحتلال عتبة ألفي قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى. ولم يقتصر التعبير عن السخط والغضب على المتظاهرين، بل ترددت أصداؤه في أنشطة المنظمات المناهضة للحرب، ومنها منظمة "ربح من دون حرب" التي قادت في الأيام الأخيرة حملة دعائية في الصحافة المكتوبة والمتلفزة، جددت فيها اتهام الرئيس بوش بالكذب السافر لتبرير الحرب على العراق. وقد صرّح المسؤول عن المنظمة توم آندراوس، وهو نائب سابق في الكونغرس، أن هدف الحملة هو الضغط على الكونغرس وسط أجواء تسودها القطيعة المتزايدة بين بوش والحزب الجمهوري مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية التي ستجري في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام المقبل. ويعتقد مايكل ديموك الخبير في مركز "بيو" للأبحاث، أن التحركات المناهضة للحرب في الولايات المتحدة وما تثيره من أصداء إعلامية، تعكس تغيراً أكيداً في مشاعر الأميركيين تجاه الحرب على العراق. وتأتي جميع استطلاعات الرأي لتبيّن أن أكثرية الأميركيين باتوا يعتقدون بأن تلك الحرب كانت خطأً. وقد بلغت نسبة القائلين بذلك 95% من المشمولين باستطلاع أُجري في 15 أيلول/ سبتمبر الجاري. ويضيف ديموك: إن الأقلية التي تؤيد بقاء القوات الأميركية في العراق تبدي بدورها قلقاً متزايداً بخصوص تطورات الحرب، ولا تخفي رغبتها بتحديد موعد لإنهاء الاحتلال. ويؤكد توماس مان الخبير في مؤسسة "بروكينز" للشؤون الانتخابية، أن الصور اليومية عن المجازر التي تُرتكب في العراق وارتفاع أكلاف الحرب، قد أسهمت ـ إضافة إلى اعتصام سيندي شيهان أمام مزرعة بوش والبيت الأبيض حيث اعتقلتها الشرطة الأميركية الاثنين الماضي (26-9- 2005) بحجة التظاهر من دون ترخيص ـ في إدراك الأميركيين للحقيقة المرّة المتمثلة بالإشكالات التي أثارتها الحرب.
وإذا كانت فكرة الانسحاب تزداد انتشاراً في الوسطين الشعبي والرسمي، فإن هذا الحل يبدو كارثياً حتى في نظر المعارضين الديمقراطيين، لأنه سيدفع باتجاه المزيد من الانتكاسات الأميركية في العراق وسائر المنطقة. ومن هنا تبدو السياسة الأميركية الداخلية أمام خيارين أحلاهما مرّ: بين عدم الانسحاب ومواصلة القفز في المجهول وما ينجم عن ذلك من استمرار تعمق الأزمة الناشئة عن الحرب من جهة، والانسحاب وانعكاساته السلبية على السياسة الخارجية الأميركية من جهة أخرى.
وبالطبع يراهن الديمقراطيون على الاستثمار في هذا الوضع لاستعادة السيطرة على الكونغرس في الانتخابات التشريعية المقبلة، اذ تشير استطلاعات الرأي إلى أن 52% من الأميركيين يؤيدونهم مقابل 40% للجمهوريين. ولكن الأسئلة المحرجة باتت تمس من الآن فصاعداً قدرة الولايات المتحدة على ترميم أوضاعها الداخلية، ناهيكم عن موقعها الدولي في ظل الإفلاس الحالي للجمهوريين، وفي ظل الإفلاس المرتقب للديمقراطيين، حيث يشير المراقبون إلى افتقارهم لزعيم قوي، وعدم امتلاكهم أي برنامج غير النقد.
نبوءة قديمة أطلقها الرئيس كلينتون عندما أعلن في العام 1996، أن عصر الحكومات القوية في الولايات المتحدة قد انتهى إلى غير رجعة.. ولكن هل تقتصر النهاية على الحكومات القوية وحدها، أم تتجاوزها إلى غيرها من المؤسسات الأميركية؟
اعتقال سيندي شيهان وعشرات المناهضين للحرب في التظاهرات الأخيرة أمام البيت الأبيض إرهاص من إرهاصات القوة البديلة التي قد يكون الشعب الأميركي ضحيتها القادمة.
عقيل الشيخ حسين