ارشيف من : 2005-2008

فرنسا: كليرستريم وديموقراطية "المعلومات الخاطئة"

فرنسا: كليرستريم وديموقراطية "المعلومات الخاطئة"

بدأت القضية بمجموعة رسائل وبقرص مدمج تلقاه أحد القضاة في فرنسا تضمنت لائحة بأسماء مسؤولين فرنسيين تلقوا عمولات مالية بلغت 900 مليون دولار عن صفقة فرقاطات باعتها فرنسا إلى تايوان عام 1991. يومها تلوثت سمعة الإشتراكي رولان دوما الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية الفرنسية. ثم تجددت القضية لتطال حتى الآن، وبنسب متفاوتة، وزيرة الدفاع ميشيل إيليو ـ ماري عبر شريك حياتها باتريك أوليي، ووزير الداخلية، نيكولا ساركوزي، ورئيس الجمهورية جاك شيراك، الذي قيل بأنه دفع رئيس الوزراء دومينيك دوفيليبان، يوم كان وزيراً للخارجية، إلى الإيعاز إلى الجنرال فيليب روندو، وهو أحد كبار مسؤولي الاستخبارات العسكرية، بفتح تحقيق حول حسابات "خارجية" يملكها مسؤولون فرنسيون، منهم، نيكولا ساركوزي، في مؤسسة "كليرستريم" المالية المتمركزة في لوكسمبورغ.‏

والمذكورة أسماؤهم هم جميعاً من الحزب الحاكم، حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية. وهم جميعاً مرشحون لمنصب رئاسة الجمهورية في الانتخابات التي يفترض بأنها ستجري في أيار/ مايو من العام القادم. وهم جميعاً يتبادلون الطعنات بأسلحة ما يسمى بـ"المعلومات الخاطئة"، تطهيراً للألسنة عن ذكر "الكذب الصراح". وهم جميعاً "أعدقاء" الرئيس شيراك الذي، برغم العداوة السافرة، اجتمع بساركوزي وقيل بأنه اتفق معه على العمل بشكل مشترك لأنه الوحيد القادر على جمع اليمين، في الوقت الذي يواصل فيه نشر جناحه الأبوي الحنون فوق دوفيليبان. هذا، من جهة.‏

ومن جهة أخرى، شيراك ينفي أنه أوعز إلى دوفيليبان، ودوفيليبان يعترف أنه أوعز إلى روندو بالتحقيق، ولكن في قضية أخرى، وروندو ينفي اليوم ما كان أكده بالأمس، وساركوزي الذي ظهر بنجاح بمظهر الضحية وكسب بذلك تعاطفاً أكيداً من الرأي العام، أعلن نفسه مطالباً بلا هوادة بالكشف عن الحقيقة. لكن ذلك لم يمنع بعضهم من القول بأن هنالك من تشكل الحقيقة آخر همه لأنه هو نفسه مشتبه بكونه وراء التسريبات والقرص المدمج. وعندها مال ساركوزي نحو الموادعة، وجلس إلى شيراك وتصافى مع دوفيليبان الذي تبادل قبلة المودة مع إيليو ـ ماري. لكن الأفواه التي تبتسم أمام الكاميرات، لا تفعل غير التستير على الكلام الذي يكيد في الجلسات السرية مع المستشارين والمعاونين والحلفاء، والمعركة لا تزال في بداياتها. والأكيد أن الناس لن يكون بإمكانهم أن يتابعوا كل ما سينسج وما سيتسرب من "معلومات خاطئة" من الآن وحتى موعد الاستحقاق الانتخابي. والأكيد أيضاًً أن الوجود السياسي لهؤلاء المسؤولين السياسيين بات ثقيل الوطأة على أنفسهم إلى درجة أن دومينيك دوفيليبان المرهق، والذي بدا منهكاً بالعي وانقطاع الحجة في مؤتمره الصحافي الشهري قد تهلل وجهه بالفرح، واعتراه الحبور والنشاط عندما شرد بعض الصحافيين بأسئلتهم، لدقيقة أو دقيقتين، عن كليرستريم، إلى الملف النووي الإيراني! وبالمعنى نفسه، بدا جاك شيراك الذي ورد اسمه أيضاً كموضوع لتحقيق استخباراتي بسبب ما قيل عن امتلاكه لحساب أو حسابات سرية في اليابان، بدا مستعداً للكلام، في فيينا، خلال القمة الأوروبية الأميركية اللاتينية، عن كل شيء إلا عن كليرستريم والحسابات والعمولات!‏

كل هذا في بلد هو من هو في حقل تعليم أصول الحكم والديموقراطية والنزاهة والشفافية، وما إلى ذلك، للآخرين، وتداول السلطة أيضاً. تلك السلطة التي يبدو أن تداولها لم يعد ممكناً في قلاع الديموقراطية بغير طرق الاغتصاب والمعلومات الخاطئة. تلك السلطة التي أصبحت أيضاً، في أجواء هيمنة الأفكار والممارسات الديموقراطية، حصاناً لا يركبه الموظفون السياسيون، من رؤساء ووزراء ومن دونهم، إلا في الرحلات إلى كواليس المصارف والبورصات لقبض عمولة من هنا أو رشوة من هناك.‏

وكل ذاك في فرنسا التي تبدو عليها منذ عام أو عامين أعراض المفارقات الكبرى والاضطرابات الكبرى. فمن إيقاف الدستور الأوروبي، إلى حرب إحراق السيارات، إلى انتفاضة عقد العمل الأول، إلى استحضار الماضي الاستعماري المشرف، تبدو فرنسا في حالة من التحفز للقيام بعمل يخرق المألوف. ما هو دور عبارة ماري أنطوانيت التي تحدثت فيها عن الخبز والبسكويت في تحفيز الثورة الفرنسية الكبرى، في أواخر القرن الثامن عشر؟ وما هو دور التهتك العمولاتي لساسة فرنسا الحاليين في تحفيز الأحداث الكبرى التي بدأت بترسيم خارطة فرنسا المقبلة على أنقاض فرنسا المغدورة بقادتها. أسئلة قد تطرح قريباً على التلامذة في امتحانات التاريخ، في فرنسا وفي غير فرنسا.‏

ع.ح‏

الانتقاد/ دوليات ـ العدد 1162 ـ 19 أيار/مايو 2006‏

2006-10-28