ارشيف من : 2005-2008

الملف النووي الإيراني: الاختبار الأصعب للسياسة الروسية

الملف النووي الإيراني: الاختبار الأصعب للسياسة الروسية

الانتقاد/ دوليات- 1128- 23 أيلول/ سبتمبر 2005‏

سارع المفاوض الأوربي إلى رفع مشروع قرار لوكالة الطاقة الذرية للنظر في إحالة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن. ولما كانت روسيا هي الدولة الرئيسية في تعاونها مع إيران نووياً، فإن مشروع القرار المذكور سيشكل تحدياً للسياسة الخارجية الروسية البوتينية، فهل ستتمكن روسيا من حماية سياستها الخارجية، ومصالحها الاستراتيجية هذه المرة؟‏

بدأ التعاون الفعلي بين إيران وروسيا الحديثة في عهد الرئيس يلتسين، لكن سياسة روسيا الخارجية المتجهة غرباً حينها لم تعط هذا التعاون زخمه الطبيعي لعلاقة بين دولتين تفرض عليهما المتغيرات الدولية أن تقيما علاقات استراتيجية لخدمة مصالحهما الخاصة لكل دولة والمشتركة لكليهما.‏

النقلة النوعية في التعاون الروسي ـ الإيراني جاءت إثر نقلة نوعية في السياسة الخارجية الروسية عندما أعلنت روسيا عن انسحابها الأحادي الجانب من التزاماتها التي نص عليها تفاهم (آل غور ـ تشيرنومردين) الوثيقة الروسية ـ الأميركية الموقعة في إطار لجنة (آل غور ـ تشيرنوميردن) عام 1995، التي تحدد قائمة دول (محور الشر) وتُلزم الطرفين بعدم تصدير الأسلحة لهذه الدول.. وإيران كانت على هذه القائمة.‏

ويبدو أن روسيا أدركت أن سياستها الخارجية في السنوات العشر الأولى لانفصالها عن الدولة السوفياتية، لم تكن سياسة متوافقة مع دولة لها مكانتها وحجمها الدوليان مثل روسيا. كما أن الغطرسة الأميركية التي عمدت إلى تهميش روسيا وتحجيمها، وغير ذلك من عوامل كثيرة تحتاج إلى بحث مستقل لتناولها، بدأت موسكو تغيّر سياستها الخارجية وتوجهت نحو تحقيق مصالحها دون املاءات خارجية، فجاء انسحاب روسيا من "التفاهم" المذكور، في خطوة من مجموعة خطوات أشارت حينها إلى أن الدب الروسي بدأ يستيقظ من سباته، حسب تعبير البعض.‏

منذ اللحظات الأولى لاستعادة روسيا وإيران علاقاتهما الطبيعية وقفت واشنطن ضد هذه العلاقات، ولم يفوّت بوش أي فرصة للضغط على موسكو كي توقف تعاونها العسكري مع إيران. وكذلك الأمر بالنسبة الى "إسرائيل" التي كان رئيس وزرائها يركز على البحث في العلاقات الروسية ـ الإيرانية أثناء لقاءاته بالقيادة الروسية، ويكرر بلهجة لا تخلو من الضغط الطلب الأميركي في هذا الشأن.‏

لم تنصَع موسكو إلى هذه المطالب، واستمرت بتعاونها مع الجمهورية الإسلامية، لما في ذلك من خدمة للمصالح الاستراتيجية الروسية الاقتصادية والسياسية والعسكرية.‏

ويشير أكثر من مفكر وباحث سياسي روسي إلى أهمية العلاقات الروسية ـ الإيرانية في المرحلة الحالية، وضرورة أن يكون طابع هذه العلاقات استراتيجياً إذا كانت موسكو جادة بسعيها لاستعادة ما فقدته من نفوذ جراء سقوط الاتحاد السوفياتي.‏

في هذا المجال يشير المحللون إلى أن النقطة الرئيسية التي تعطي هذه العلاقات طبيعة مميزة يمكن تلخيصها بعبارة واحدة: رفض الدولتين للسياسات الأميركية عموماً، وفي مناطق مصالحهما الاستراتيجية خصوصاً.‏

فإيران وروسيا تواجهان تحديات مشتركة كثيرة. أما التعاون الروسي ـ الإيراني في شتى المجالات بما فيها النووي، فيمكن تلخيص نتائجه على السياسات الأميركية بعبارة واحدة أيضاً: التعاون الروسي ـ الإيراني هو عصا في دواليب العربة الأميركية المندفعة بهمجية للسيطرة على المناطق الحساسة من العالم، مثل الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.‏

للأسف فقد انصاعت الدول المفاوضة للرغبات الأميركية، وطالبت بتحويل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن. هذا ما دعت إليه جمهورية شيراك التي سبق أن وافقت على بيع مفاعل نووي فرنسي من نوع (أوزيراك) الى العراق.‏

ففي عام 1975 وقع رئيس الحكومة الفرنسية شيراك مع رئيس الحكومة العراقية صدام حسين حينها، اتفاقية تقوم فرنسا بموجبها ببناء مفاعل نووي للعراق، إضافة إلى مخبر نووي من نوع (إيزيس). والأكثر خطورة هو موافقة فرنسا حينها على تزويد العراق بـ72 كغ من الوقود النووي لضمان عمل المفاعل المذكور في عامه الأول. كل هذا جرى دون أبسط إشارة فرنسية لضرورة إخضاع الاتفاقية لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مع العلم بأن كمية الوقود التي وافقت باريس على تزويد بغداد بها هي مادة خام مكتملة التصنيع، وتكفي لتصنيع عدة قنابل بحجم تلك التي ألقيت على هيروشيما. وبغض النظر عن النهاية المأساوية للمشروع النووي العراقي، إلا أن استعداد باريس لتعاون على هذا المستوى من الخطورة كان حينها واقعة أملتها أولاً وأخيراً المصالح الفرنسية. أما الدول الأخرى التي تدفع إلى تدويل الملف النووي الإيراني، فهي تبحث عن مصالحها أيضاً، ومصلحتها تكمن ـ للأسف ـ في إرضاء المزاجية الأميركية. إنه استسلام أوروبا بتاريخها العريق وثقافاتها وحضارتها أمام عقلية الكاوبوي.‏

في غضون ذلك ما زال الموقف الروسي يرفض رفع الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن، وكانت القيادة الروسية قد أكدت على هامش قمة العالم وبعدها، أن إحالة الملف إلى مجلس الأمن ستؤدي إلى التوتر، وقد تدفع إيران إلى السعي لامتلاك السلاح النووي. وكان الرئيس بوتين قد أكد لنظيره الأميركي في محاولة لتخفيف الضغط على إيران، أن طهران لا تسعى إلى امتلاك السلاح النووي. لكن واشنطن وحلفاءها، كعادتها، أصرت على القيام بما يلبّي استحقاقات سياساتها.‏

لقد تميز الموقف الروسي في الآونة الأخيرة بدعمه لإيران في ملفها النووي، لكن ما الذي ستفعله إذا ما حُوّل هذا الملف إلى مجلس الأمن؟ فالأكيد أن قرارات هذا المجلس لن تكون عادلة بوجود واشنطن وباريس ولندن على طاولة الخماسي صاحب الحسم في المنظومة الدولية. فهل نحن بانتظار موقف روسي حاسم قد يصل إلى حد الفيتو الذي سيضع أخيراً الحد الفاصل بين قوى الخير والشر في العالم، والذي سيؤدي كحد أدنى إلى وضع روسيا لقدمها على بداية الطريق الحقيقية نحو استعادة المفقود من عظمتها وهيبتها واستقلاليتها؟‏

إن اتخاذ قرارات تاريخية لا يأتي مع التردد، وإلا فإن العالم سيستمر بغرقه في ظلمات السياسة الأميركية.‏

طه الولي‏

2006-10-28