ارشيف من : 2005-2008

مصر: ناخبون بانتظار وعود الرئيس

مصر: ناخبون بانتظار وعود الرئيس

الانتقاد/مقالات ـ العدد 1127 ـ 16 أيلول / سبتمبر 2005‏

القاهرة ـ عصام حنفي‏

للمرة الأولى ينزل الحاكم في مصر إلى الشارع يطلب ثقة الشعب.‏

هكذا فعل الرئيس حسني مبارك وهو يقترب من ثمانينيات العمر المديد، تولى خلالها مسؤولية الحكم أربع ولايات متتابعة تقدر بأربعة وعشرين عاماً.‏

ثقل التركة السياسية لسني حكم الرئيس مبارك اقتضت الإعداد الجيد للمسرحية الانتخابية، فقد جرت وفق التعديل الدستوري للمادة 76 الشهيرة، والتي منحت حق الترشح لرؤساء الأحزاب السياسية، وحجبته عملياً عن المستقلين، ما استبعد قطاعاً مؤثراً من السعي للتنافس على المنصب الرفيع. ومن نافلة القول ان حق تكوين الأحزاب خلال سني حكم الرئيس مشروط بعراقيل إجرائية تضعها لجنة الأحزاب في مجلس شورى القوانين، ما أسهم فعلياً في استبعاد قوى فكرية أصيلة وراديكالية من حق التنظيم الحزبي العلني، بينما منح هذا الحق لأشخاص ربما لا وجود سياسياً حقيقياً لهم، وربما ارتبط بعضهم فى الذاكرة بتشخيصات هزلية.‏

هكذا يبدو أن الرئيس اختار منافسيه على خشبة المسرح الانتخابي بعناية، بحيث يبدو أنه العاقل الوحيد. واجتهد الإعلام في عرض الجوانب الهزلية لبعض المنافسين التسعة، أقلها طرافة تصريحات متواترة لبعضهم أن مبارك هو الأصلح وأنهم شاركوا فقط لإنجاح التجربة!‏

ويلمّح المراقبون إلى رغبة البعض في الحصول على الدعم المقرر للإعلان الانتخابي، وهو قرابة مئة ألف دولار، وإلى صفقات انتخابية يحصلون بموجبها على مقاعد نيابية لأحزابهم. ولأن الرياح لا تأتي بما تشتهي السفن، فقد برز على الساحة أيمن نور الذي يبلغ أربعين عاماً من العمر ـ وهو رئيس حزب الغد حديث العهد ـ منافساً رئيسياً لمبارك، بينما أحجم خالد محيي الدين رئيس حزب التجمع اليساري عن رغبة أبداها سابقاً للترشح، التزاماً بقرار أحزاب المعارضة الرئيسة: الوفد والتجمع والناصري وحركة كفاية بمقاطعة المشهد الانتخابي جملة وتفصيلاً.‏

وعلى حين غرة تقدم د. نعمان جمعة رئيس حزب الوفد قبل أسبوعين فقط من موعد إنهاء الحملات الانتخابية بطلب للترشيح، متعللاً بضغوط أعضاء حزبه.. وهكذا برز أمام الرئيس منافس يقاربه عمراً ويرأس حزباً ذا عراقة تاريخية، ما أعطى مصداقية للمشهد الانتخابي. هذا الخروج على الإجماع شكل صدمة للتحالف المعارض، إلا أن المتابع لسيرة نعمان جمعة مذ كان نائباً لرئيس الوفد، لا يستبعد عليه التطوع بأدوار كهذه، فقد عمل ممثلاً قانونياً للسفارة الصهيونية، كذلك عمل ممثلاً قانونياً لوزير الزراعة الأسبق يوسف والي على خلفية ادعاءاته ضد صحافيين هاجموا صراحة سياسات التطبيع الزراعي مع الكيان الصهيوني. وقد حرص الإعلام الرسمي وشبه الرسمي على تقديمه منافساً أول للرئيس.‏

على الصعيد الفكري اختفت من المناظرة الانتخابية أي مفردات قومية أو إسلامية أو تناول لقضية الصراع مع الصهيونية والموقف من معاهدة "كامب ديفيد"، وبدا كما لو كان العبور الى المستقبل الذي يدعو اليه برنامج مبارك أو بناء الغد كما يرى منافسه نور مقطوع الصلة بتراث الأمة.‏

أما على الصعيد الإعلامي فقد قدم الطاقم الانتخابي الرئيس مبارك في صورة لم يألفها الناس، مستوحاة من الـ"ميديا" الغربية. فقد ظهر مرة في فيلم حواري يحكي سيرته العملية، وآخر عائلي برفقة زوجته. كذلك تحرر الرئيس من الزي الرسمي والكرافات وأحياناً "الجاكيت"، ومنح الناخبين كثيراً من الوعود، مثل بناء ألف مصنع وإيجاد أربعة ملايين ونصف مليون فرصة عمل. واجتهد حزب الرئيس في حشد الأنصار، حيث قُسمت الجمهورية إلى قطعات على مستوى الأحياء الصغيرة، واختير لكل قطاع مسؤولون حزبيون يوكل إلى كل منهم إحضار خمسين مؤيداً للرئيس يوم الاقتراع. كذلك أبلغ نواب الحزب الحاكم أن نسبة حضور المؤيدين في دوائرهم ستكون هي معيار عضويتهم في الحزب.‏

الرئيس وحزبه لم يبحثا عن الفوز الذي جاء بنسبة 88% من إجمال المقترعين، فهو مضمون بحكم الطبيعة المركزية للدولة وقدرتها على حشد منتسبيها، ولكن البحث الحثيث يدور حول شرعية التمثيل ونسبة الحضور..‏

وقراءة الأرقام تكفي لتقدير مدى النجاح في هذا المجال:‏

يقارب الشعب المصري السبعين مليوناً، منهم 32 مليوناً لهم حق الاقتراع. والرقم الأول ذو دلالة على أن نسبة الحضور لم تتجاوز الـ23%، ولو أخذ المشرع باعتبار بلوغ الحضور نسبة الـ50% كشرط لصحة الانتخابات، لوجب عدم الاعتداد بالنتائج. الرقم الثاني هو نسبة الأصوات الصحيحة التي بلغت 20% فقط، وهو ما يشي بأن شرعية التمثيل لا تتعدى ستة ملايين ناخب، أما تفصيلات الأرقام فهي تشي بأساليب الحشد الحزبي ومدى فعاليتها. ففي القاهرة ذات الـ15 مليون نسمة وحيث الحضور الواسع لوسائل الإعلام الدولية والمنظمات المدنية، وحيث اعتمد المحازبون فيها أسلوب الترغيب المالي والرشى العينية، لم تتجاوز نسبة التصويت لمبارك 234 ألف صوت. أما في المحافظات الزراعية ذات الكثافة السكانية الأقل، التي تشتد فيها قبضة الدولة ممثلة بالأجهزة و"ختيارات" القرى، وجرى تهديد الناخبين فيها بغرامة مالية تقارب عشرين دولاراً لمن يتخلف عن التصويت ـ وهي عقوبة جنائية لم تنفذ يوماً في تاريخ البلاد ـ لم تتجاوز نسب التصويت ضعف القاهرة (الدقهلية 626 ألفاً, الشرقية 530 ألفاً) على سبيل المثال. أما في محافظة المنوفية وفي مسقط رأس الرئيس التي حرص على أن يطلق حملته من مقر دراسته الأولى بها، والتي تعد من أعلى المحافظات كثافة بعد القاهرة والإسكندرية، فلم يحصد سوى 428 ألف صوت، بينما منحت خصمه أيمن نور قرابة 221 ألف صوت، أي نسبة النصف تقريباً!..‏

ونترك ما تثيره الأرقام المعلنة إلى الدهشة التي تعتري المراقبين لعدم إعلان نسب الحضور في كل إقليم على حدة، برغم سهولة إحصائها.‏

الإخوان المسلمون الذين خرجوا عن الإجماع المعارض وشاركوا بالاقتراع خلال الساعات الأخيرة لمصلحة نور الذي زارهم وصلّى خلف المرشد، أمسكوا العصا من النصف: منحوا النظام ما يحتاجه من شرعية الحضور, ومارسوا استعراضاً محسوباً للقوّة.. فردّت الحكومة المجاملة الشرعية بالإفراج عن عدد من القياديين المعتقلين.‏

القضاة الذين تراوح موقفهم بين الامتناع عن الإشراف على الانتخابات وصولاً إلى المشاركة المشروطة التي تخللها صدور حكم المحكمة الإدارية العليا الذي وجه انتقادات شديدة اللهجة الى القانون المنظم للعملية الانتخابية، ينتظرون تقريراً نهائياً يعده نادي القضاة عن تجاوزات في عملية الاقتراع، لإعلان موقفهم النهائي من شرعية التمثيل. وقد سببت اجتماعات نادي القضاة وجمعياتهم العمومية مفاصل إزعاج للنظام.‏

في هذا الجو المشحون حيث يستمر مبارك رئيساً، وينصّب نور منافساً أول بحصده نصف مليون صوت، ويُمنى جمعة بخسارة فادحة, تبقى الأسئلة الكبيرة عن شرعية انتقال السلطة بعده، وعن طموحات الابن جمال للمنصب الرفيع، وعن دوره الحقيقي في دولاب الدولة.. وتبقى أيضاً دهشة رجل الشارع من وعود لم ينفذها الرئيس خلال 24 عاماً، فهل يفعلها في 6 فقط!!‏

2006-10-28