ارشيف من : 2005-2008

بين كثافة المشكلات وغياب الحلول المجدية / قمة نيويورك: تشخيص ناقص لآفات العالم

بين كثافة المشكلات وغياب الحلول المجدية / قمة نيويورك: تشخيص ناقص لآفات العالم

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1126 ـ 16 أيلول/سبتمبر 2005‏

في الذكرى الستين لإنشاء منظمة الأمم المتحدة، وفي وقت تطرح فيه ضرورة إصلاح المنظمة على أكثر من صعيد، أكثر من 180 رئيس دولة يسافرون إلى نيويورك ويلتقون، ابتداءً من 14 أيلول/ سبتمبر الجاري، في إطار القمة العالمية والدورة العادية للجمعية العمومية للأمم المتحدة، حيث يفترض بهم أن يتدارسوا الأوضاع التي يعيشها عالم اليوم، وأن يتلمسوا ـ بغية الإصلاح ـ حلولاً لما يعج فيه من مشكلات.‏

تشخيص المشكلات، كما يبدو من تحليلات المحللين الذين يعكسون إرادة الجهات المتحكمة بالقرار الدولي، يتركز على المشكلة الأمنية التي تتضمن، إلى جانب البعد الأمني التقليدي، أي ذي الطابع العسكري الساخن، أبعاداً أخرى في طليعتها الأمن الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي المرتبط بمسائل التنمية. وهذا البعد يتشعب بدوره ليطال مفاهيم الأمن الصحي والتربوي، وما إلى ذلك. والحقيقة أن التشخيص المعتمد، وتلك أولى آفاته، يركز على الأحداث والوقائع التي غالباً ما تكون طافية على سطح الظواهر، والتي تشكل مواد دسمة لوسائل الإعلام، وما تقوم به من أدوار في صناعة الرأي، وبالتالي في إعادة رسم الأحداث وتوجيهها على طريق تهيئتها للاستثمار فيها. فإذا ما اقتصرنا على التشخيص الذي يطال الناحية الأمنية، بشقها المرتبط بالبعد العسكري كما يتوقع لها أن تفرض نفسها على اجتماعات الرؤساء، نجده ينطلق من ملاحظة أن ستين حرباً قد اندلعت في العالم خلال السنوات العشر الأخيرة، وأن الأكثرية الساحقة من هذه الحروب ليست تقليدية، بمعنى أنها لا تدور بين دولة ودولة، بل بين فئات وجماعات دينية أو إتنية أو سياسية داخل كل دولة على حدة، مع تداعيات غالباً ما تأخذ مداها على المستويات الإقليمية والدولية.‏

كما يلاحظ التشخيص أن كثيراً من هذه الحروب ليس تقليدياً، بمعنى أنها لا تدور على جبهات محددة وخطوط تماس يمكن بفضلها فصل المتحاربين أو ردعهم بتدخلات دولية تقليدية، بل تدور بأشكال غير منتظمة وغير متوقعة لجهة الزمان والمكان، وغالباً ما تتم على شكل هجمات أو تفجيرات تطال المدنيين، الأمر الذي يقودنا إلى صميم الظاهرة الإرهابية بوصفها من أبرز مميزات حروب اليوم، مع الإشارة إلى عدم استبعاد قدرة الجهات الإرهابية على إخراج الحروب من نطاق تقليدية الوسائل باعتماد وسائل جديدة تحكمها في ظل الفوضى السائدة سهولة حصول الدول والجماعات وحتى الأفراد على الأسلحة النووية والكيميائية والجرثومية.‏

وعلى هذا المستوى، يبرز التشخيص أسماء دول ومنظمات وأفراد يحملها مسؤولية الخراب العالمي، ويهيئ الرأي لتقبل فكرة ضربها على طريق إعادة فرض النظام وإحلال الأمن والاستقرار.‏

أما لجهة الأمن المرتبط بمحور التنمية، فيقدم التشخيص صورة كالحة لعالم اليوم لجهة التوزيع غير المتكافئ للثروة العالمية، وسوء إدارة هذه الثروة، وما يكتنف ذلك من ضروب الفساد المفضي إلى انضمام غالبية الدول النامية إلى نوادي الفقر، مع ميل واضح إلى تحميل الجهات المحلية، أي الدول الفقيرة وأنظمة الحكم فيها القسط الأكبر من المسؤولية عن تدهور الأوضاع.‏

وإذا كانت الحلول العسكرية هي ما يعتمد أو يلوح به في مواجهة الدول والجماعات التي تلصق بها مسؤولية الاختلال الأمني العالمي، فإن سياسة المساعدات والقروض والاستثمارات الخارجية والخاصة التي كان يفترض بها أن تؤدي إلى حل مشكلات التنمية قد بدأت، بعد أن خلقت أنواعاً جديدة ومتكاثرة من الدول والأنظمة المنهارة، بإخلاء المجال للدعوة الإصلاحية التي يبشر بها الرئيس بوش، والتي تقدم الديموقراطية والحرية كترياق سحري جديد وكفيل باستئصال المشكلات.‏

لكن الدعوة الديموقراطية تغفل الشرط الأساسي للممارسة الديموقراطية بما هي ـ قبل صناديق الإقتراع وحرية التعبير ـ حد أدنى من التحرر الإقتصادي والفكري المفقود في عالم ثالث منهوب ومدمر إقتصادياً، وخاضع لأقسى أشكال التسميم الإعلامي والفكري والسلوكي. كما أنها تفتح الباب واسعاً أمام حروب غير تقليدية، هي الأخرى، بين الأنظمة والشعوب، وبين شرائح الشعوب، باعتبار أن كل فريق يبرئ نفسه وينحي باللائمة على جيرانه الأقربين.‏

وهنا يتصل الجانبان الأمنيان ـ العسكري والتنموي ـ لتنشأ عنهما أنواع من حروب الجميع على الجميع، بالشكل الذي يتحول معه العالم إلى مسرح للفوضى والتدمير الضروريين لإعادة الإعمار والبناء بالصورة التي تقتضيها مخططات المحافظين الجدد بخصوص ما يعرف باسم الفوضى البناءة.‏

ويمكن، استباقياً، رسم صورة أجواء القمة العالمية ومداولاتها كمجال يتسابق فيه المشاركون للدعاية للتشخيص المذكور والحلول المطروحة، وكذلك للمطالبة بتعزيز دور مؤسسات الأمم المتحدة في صيانة السلم وتوطيد الأمن ومعالجة مخلفات الحروب، مع توقع صرخات استنكاف وإدانة تطلقها الجهات القليلة المستهدفة، ولكنها تظل قاصرة، في ظروف الحشد الأميركي، عن أن تعيد الجمعية العمومية إلى الوضع الذي كانت عليه في الستينيات، يوم كانت منبراً ومركزاً للقرار، يعكس طموحات التحرر ويحشر النوازع العدوانية لقوى الهيمنة في الزاوية الضيقة. وعليه لا ينتظر لقمة الرؤساء أن تخرج بأكثر من بيان شكلي لا يجازف بإثارة النقاط الأكثر حساسية في السياسة الدولية، ما يعني أن منظمة الأمم المتحدة تزداد بعداً عن الاضطلاع بمهمة قيادة العالم على دروب السلم والمساواة والتقارب، بقدر ما تحولت إلى أداة غالباً ما تستخدمها مراكز القرار في خدمة سياسات لا تخدم مصالح الشعوب.‏

وفي ظل هذا الوضع، فإن الحروب غير التقليدية المتفجرة والمتحفزة للتفجر بمساعي قوى الهيمنة، الأميركية بوجه خاص، تستدعي تشخيصات تطال جذور المشكلة وتحدد، انطلاقاً من مساعي الهيمنة تلك، الأسباب الحقيقية لمشكلات العالم، بما فيها مشكلة الإرهاب، مع التمييز بينه وبين النضال التحرري.‏

ولا بد من التشديد على أن صوابية العمل التشخيصي، بما هي كشف لطبيعة أنماط الهيمنة الجديدة بأبعادها الثقافية والعسكرية والسياسية، وخصوصاً على مستوى أنماط العيش المستحدثة، تكشف بدورها عن القوى المتضررة من هذه الهيمنة، وعن أساليب المواجهة الناجعة، التي تحتل المقام الأساسي فيها المسلكيات المعيشية اليومية ذات الصلة بإخراج الإنسان من موقع الإمّعية والطُفيلية الاستهلاكية لإعادته إلى موقع الانتاج والمسؤولية والفاعلية.‏

عقيل الشيخ حسين‏

2006-10-28