ارشيف من : 2005-2008
إعصار كاترينا:كارثة.. لكنه فرصة ذهبية للرأسمالية المتوحشة

الانتقاد / موضوع الغلاف ـ العدد 1126 ـ 9 أيلول / سبتمبر 2005
منذ سنوات، وبالتوازي مع صعود المحافظين الجدد أو ما يعرف باسم المسيحيين المتصهينين في الولايات المتحدة، تحرص عشرات القنوات التلفزيونية وغيرها من وسائل الاعلام المرتبطة بالتيار المذكور، على حشو الخيال الشعبي الاميركي بأفلام وتحقيقات ودراسات هي عبارة عن صور هائلة عن الكوارث الطبيعية التي ستتصاعد وتائرها في عالم اليوم على طريق تدميره، تمهيداً لولادة الفردوس الأرضي الموعود. لذا فالكارثة التي أصابت الولايات الجنوبية الثلاث ودمرت مساحة تزيد على 265 ألف كلم مربع ـ مساحة لبنان مضروبة بـ25 ـ قد تعني بالنسبة الى البعض على الأقل، شيئاً آخر غير ما يتردد من تعليقات وتحليلات حول الدلالات والتداعيات السلبية للحدث. فالواقع، ولتقريب الفكرة، قد ينبغي العودة الى العالم 1927 وفيضان نهر الميسيسيبي، حيث حُشر السود في معسكرات اعتقال حقيقية، بينما كانت السلطات تقوم عمداً بإغراق الأحياء الفقيرة كطريقة مبتكرة لإبعاد السود عن المدينة لاعتبارات اقتصادية واجتماعية وعنصرية.
والظاهر أن ملامح الفردوس الأرضي ذاك قد بدأت تطل برأسها بشكل لافت حتى قبل انتشال آلاف الجثث المتحللة التي لا تزال تطفو في الأنهار والبحيرات، التي كانت قبل أيام شوارع وساحات في نيو أورليانز وغيرها من المدن المنكوبة. ومن هذه الملامح نداءات بوش ـ رئيس الدولة التي يبلغ ناتجها السنوي عشرة آلاف مليار دولار ـ لجمع التبرعات، والأحاديث المبكرة جداً عن "مشروع مارشال" واسع النطاق للمنطقة، وحصول "كي بي آر" أحد فروع هاليبورتون بعد يوم أو يومين من بداية الإعصار، على عقود بقيمة 500 مليون دولار لإعادة الإعمار، وبدء وصول طلائع المقاولين الى المنطقة.
هذه السرعة الفائقة في التحرك المقاولاتي الناشز في جو التباطؤ الإغاثي وغير المتناسب مع الجو الكارثي السائد، يفترض بها ـ ما دامت لجنة تحقيق قد شكلت من قبل الكونغرس للنظر في ملابسات الإعصار ـ أن تضع ولو على سبيل الافتراض القابل للاستبعاد، احتمالاً من نوع الهمهمات التي سرت في أجواء "التسونامي" الذي ضرب جنوب آسيا قبل أشهر، عن إمكانية حدوث تفجير مقصود أو تدخل متعمد من نوع التدخلات التي يتخصص فيها مشروع "هابل"، بهدف توليد الإعصار بغية التسريع في إعادة رسم خارطة المنطقة (المقصود منطقة لويزيانا ـ ميسيسيبي ـ آلاباما)!
فالحقيقة من منظور الليبرالية الاقتصادية المتوحشة التي يرعاها المحافظون الجدد، أن الولايات المذكورة هي ذات قيمة استراتيجية كبرى من الناحية الاقتصادية لجهة موقعها النفطي والسياحي، ولكونها بوابة الولايات المتحدة الرئيسية على أميركا الوسطى والجنوبية وأفريقيا.. ولكن الولايات المذكورة تحوي من المنظور نفسه، معوقات من شأنها أن تتنافى مع مقتضيات التنمية السريعة والناجعة. وأبرز هذه المعوقات أن سكان الولايات المذكورة هم بأكثريتهم من السود الفقراء، وهذا أمر ذو تداعيات ليس أقلها أنه يترك بصماته أيضاً على فيزيونوميا التجمعات السكانية التي لا تتوافر فيها مقومات التخطيط الملائم للمدن من الناحيتين الجمالية والوظيفية. باختصار يمكن القول ان المنطقة هي أشبه بقطعة من العالم الثالث على أحد أطراف الولايات المتحدة، وإن تأهيلها لتصبح متناسبة مع متطلبات مشاريع الاستثمار قد يتطلب جهوداً وتوظيفات لا تتحملها العقائد الليبرالية التي تسودها فكرة التدمير بهدف البناء، بدلاً من الإصلاح البطيء المتنافي مع أغراض الربح الضخم والسريع.
من هنا، وإذا ما أسقطنا الافتراض المذكور آنفاً حول افتعال الإعصار لتدمير المنطقة وإخلائها من السكان بهدف اعادة اعمارها وإسكانها وفقاً للمعايير المنشودة، فإن روائح المؤامرة الهادفة الى الاستثمار في الإعصار تظل أشد قوة من روائح الجثث الطافية على مياه الإعصار.
وفي هذا المجال، فإن التقصير الذي اتُهمت به ادارة الرئيس بوش والذي سيكون في جملة اهتمامات لجنة التحقيق، يتمحور حول نقطتين: ما فعلته الادارة قبل الاعصار على مستوى الاستباق والوقاية، وما فعلته بعد الاعصار على مستوى عمليات الانقاذ والمساعدة. فعلى المستوى الأول بات في حكم المؤكد ان الادارة الاميركية كانت تعلم بشكل يقيني ان اعصاراً ضخماً سيضرب المنطقة وسيحدث فيها أضراراً كبيرة جداً، وأنها تعمدت العمل بشكل يسهل مهمة الاعصار. فالواقع ان تحذيرات كثيرة قد وُجهت من الصحافة المحلية ومن العديد من مراكز الأبحاث حول هشاشة وضع السدود التي يفترض بها حماية مدينة أورليانز الواقعة تحت مستوى سطح البحر. وقد تحدثت "نيويورك تايمز" عن الموضوع أكثر من مرة، وتساءلت صحف أخرى عن سبب السماح للمقاولين بجرف سلسلة الجزر المحاذية للشاطئ، التي كان يمكنها تخفيف الصدمة. كما أن المهندس المسؤول عن السدود كان قد اشتكى عام 2004 في مقابلة مع صحيفة "تايمز بيكون" المحلية، من الاقتطاعات الضخمة في موازنات السدود لتمويل الحرب على العراق ومكافحة الإرهاب. وفي السياق نفسه تنبأت الوكالة الفيدرالية لاستباق وإدارة الكوارث قبل أربع سنوات بالإعصار.. كما أن مجلة "سمانتيفيك اميركا" التي تعتبر "توراة اميركا في مجال العلم والتكنولوجيا"، وجهت منذ العام 2001 تحذيرات حول هشاشة المدينة. وبدلاً من إعانتهم على مستوى زيادة الميزانيات، قامت الادارة بتقليصها بشكل كبير. ففي العام 2005 طلبت الادارة المحلية مبلغ 27.1 مليون دولار لصيانة السدود، لكن واشنطن قلصت المبلغ المطلوب بنسبة 80 في المئة، لتكتفي بصرف 3.9 مليون دولار، ثم رفعتها تحت الضغط الى 5.9 مليون دولار، مقابل 10 ملايين دولار كانت مخصصة للصيانة عام 2001. كما أن هيئة مراقبة الفيضانات في لويزيانا كانت قد طلبت 100 مليون دولار، لكنها لم تحصل إلا على 34 مليون دولار، مقابل 19 مليوناً كانت مخصصة لاستباق المشكلة عام 2001.
ويجمع المراقبون على أن تقليص الموازنات كان يحصل بهدف نفخ الموازنات المخصصة للحرب على العراق. أما لجهة ادارة المشكلة بعد الاعصار، فإن التباطؤ والعجز كانا سيدي الموقف على جميع المستويات، من عمليات الانقاذ الى التموين وتأمين الملاجئ وإقرار الأمن. حتى ان محافظ أورليانز طلب وقف أعمال انقاذ الناجين وإعطاء الأولوية للمحافظة على الأمن.
وإضافة الى أشكال التقصير التي بدرت من القوة الاقتصادية الاولى في العالم، وفي ظل الحديث عن حاجة المنطقة الى عناصر الحرس الوطني الخاص بالولايات الثلاث، والموجود ثلثهم حالياً في العراق، عادت الى البروز مشكلة العنصرية التي طالما شكلت عنصر ارتباك حقيقياً للمجتمع الاميركي منذ الحرب الأهلية، التي لا تزال بذاتها تتأجج تحت الرماد بانتظار تفجر جديد.
عقيل الشيخ حسين