ارشيف من : 2005-2008

بدء المرحلة الانتقالية في السودان :سلام داخلي بثمن خارجي

بدء المرحلة الانتقالية في السودان :سلام داخلي بثمن خارجي

الانتقاد / عربيات ـ العدد 1118 ـ 15 تموز/ يوليو 2005‏‏

دخل السودان مرحلة سياسية جديدة تمتد لست سنوات ينظمها دستور انتقالي، لينهي بذلك أطول الحروب في القارة السوداء التي استغرقت نحو واحد وعشرين عاماً مودية بمليوني قتيل، معظمهم بسبب المجاعة والفقر، وملايين المشردين. لكن ظلال التوتر لا تزال تسيطر على اكبر بلد افريقي مساحةً بسبب صراعين دمويين يشهدهما في غربه وشرقه.‏‏

استحواذ الحدث السوداني على اهتمام دولي وإقليمي برغم الاحداث الاخرى التي تعصف بالمعمورة، سببه انه يدشن مساراً جديداً يتوج مفاوضات شاقة انتهت الى توقيع اتفاق سلام في كانون الثاني يناير الماضي في نيروبي، لكنه في الوقت نفسه يطرح اسئلة حول مستقبل هذا البلد في ختام العهد الانتقالي الذي يفترض ان يقرر الجنوبيون فيه عبر استفتاء ما اذا كانوا سيبقون ضمن سودان موحد ام سيختارون الانفصال. وهذا الامر ستساهم عوامل عدة في تقريره بينها الداخلي وبينها الاقليمي وبينها الدولي، وبين كل ذلك حسابات سياسية واقتصادية وسلطوية، سيكون لها الدور البارز في تعزيز خيار الانفصال او خيار الوحدة.‏‏

فالمرحلة الانتقالية انطلقت بعد ان وقّع الرئيس عمر حسن البشير الدستور الموقت، ومن ثم ادى اليمين مع نائبيه الاول قائد الجيش الشعبي لتحرير السودان، وهي حركة التمرد الرئيسة في جنوب البلاد، والثاني علي عثمان طه، مع صلاحيات واسعة للنائبين، متوجاً حدث عودة قرنق الى الخرطوم في اجواء احتفالية صاخبة اختلطت فيها المشاعر بالأمنيات والحسابات.‏‏

فـ"المتمرد" العائد بقوة شريكاً في السلطة لحزب المؤتمر الوطني الحاكم بزعامة البشير، يحظى برعاية خارجية اميركية وافريقية مجاورة وظّفها اولاً في تحسين شروطه وموقع فريقه في الاتفاق، ومن ثم يفترض انه سيسعى لتوظيفها في تعزيز موقعه في السلطة اثناء تطبيق الاتفاق، وصولاً الى اعتماد الحل النهائي.. اذ انه وبعد نجاحه في تأمين دور للجنوب في الحكومة يقول بعض الزعماء الجنوبيين انه يتعين على قرنق اشراك الجنوبيين أنفسهم في السلطة بشكل عادل لتجنب اشتعال الصراعات القبلية، حيث ان هناك نحو واحد وأربعين فصيلاً مسلحاً في الجنوب السوداني لم يعتبروا جزءاً من العملية الحالية حيث لم يوقعوا على اتفاق انهاء الحرب، ولن يكون لهم تمثيل في المؤسسات الموقتة.‏‏

وهذه مهمة رئيسة تواجه قرنق في اقناع هؤلاء بالانخراط في التسوية الجارية ضمن حصة الستة في المئة التي تركها لهم اتفاق تقاسم السلطة والثروة، حيث نص على أن يحظى حزب البشير بإثنين وخمسين في المئة من المقاعد الوزارية والتشريعية، مقابل ثمانية وعشرين في المئة لحزب قرنق، فيما توزع الاربعة عشر في المئة الباقية من حقائب الحكومة ومقاعد البرلمان على احزاب المعارضة الشمالية. ومن غير المعروف ما اذا كانت الستة في المئة كافية لاقناع بقية الفصائل الجنوبية بالمشاركة، وخصوصاً ان ثمة من الجنوبيين من ينظر بغير عين الرضا الى قرنق وزعماء كبار من الحركة الشعبية لتحرير السودان ـ الجناح السياسي للجيش الشعبي ـ لانهم عاشوا قدرا كبيرا من حياتهم في دعة (بعيدا عن المنطقة التي مزقتها الحرب) في نيروبي وكمبالا والقاهرة وتورونتو وواشنطن، والآن هم يعودون للتنعم برغد السلطة، كما ان الانطباع السائد عن قرنق انه وبرغم سلوكه العام ومؤهلاته الاكاديمية فإنه يخفي وراءهما انتهازية ومعاملة منافسيه بلا رحمة، يتوقع ان تكون حاضرة في النقاشات حول الحصص التي يمكن ان تمُنح لمنافسيه الآخرين.‏‏

وفي المقلب الآخر فإن عشرة فصائل من المعارضة الشمالية وجهت انتقادات عدة للدستور الموقت، معتبرة ان الحصة المقررة لها في التشكيلة الحكومية والنيابية لا تعبر عن حجمها الحقيقي، مثلما لا يمثل حزب المؤتمر الوطني كل الشمال، والجبهة الشعبية كل الجنوب حسب قولهم، لذلك قرروا عدم المشاركة في السلطة لانه وفقاً للزعيم الاسلامي المعارض حسن الترابي فإن "هذه النسبة التي تركت لنا تجعلنا مسؤولين" عن قرارات اتخذت، "ومن دون ان تكون لنا اي سلطة" على هذه القرارات.‏‏

على أي حال فإن الحكومة الجديدة برئاسة البشير يتوقع ان تبصر النور مطلع شهر آب/ اغسطس المقبل، وبانتظار ذلك بدأت سلسلة انفراجات سياسية تبصر النور كإحدى نتائج الاتفاق، ومنها الغاء حالة الطوارئ السارية منذ ستة عشر عاماً عن جميع المناطق باستثناء خمس ولايات، هي ولايات شمال دارفور وجنوب دارفور وغرب دارفور وكسلا والبحر الاحمر (شرق)، كما يُنتظر الافراج عن جميع السجناء السياسيين، بعدما افرج اواخر حزيران الماضي عن الترابي، فيما توقفت رقابة جهاز الامن الوطني عن الصحافة السودانية الامر الذي ترك انطباعات ايجابية في الاوساط الاعلامية هناك.‏‏

يبقى الجانب الدولي المتعلق بالمساعدات التي قررتها الدول المانحة والبالغة نحو اربعة مليارات ونصف مليار دولار اميركي، ولم يُقدّم منها حتى الآن سوى 650 مليوناً. وقد حذرت الامم المتحدة من ان عدم الايفاء بها سيعرض اتفاق السلام للخطر. واخذ امين عام المنظمة كوفي انان على عاتقه توجيه رسائل للدول المعنية الكبرى لتذكيرها بالاحتياجات العاجلة للسودان، والتي قدّرها كبير مبعوثي الامم المتحدة الى هذا البلد يان برونك للعام الحالي وحده بنحو ملياري دولار من المعونات لاعادة تعمير الجنوب ولمساعدة اكثر من 2.5 مليون من سكان اقليم دارفور.‏‏

لكن هذه المساعدات هي اكثر من سيف مصلت على حكومة الخرطوم، من حيث ربطها بالتقدم السياسي على جبهة دارفور، وفي ظل قرار مجلس الامن الدولي الذي يهدد بفرض عقوبات على السودان، ومنها تجميد ارصدة كل من يهدد اتفاق وقف النار الهش في دارفور. وقد كشف انان نفسه ان الامم المتحدة ستستخدم سياسة العصا والجزرة مع الحكومة السودانية، أي ستتحكم من ناحية بموضوع تدفق المساعدات، ومن ناحية اخرى تلوّح بوضع قرار العقوبات موضع التطبيق، وهذا يشكل ابرز مظاهر التدخل الدولي في رسم مستقبل الازمة السودانية، ويمكن ان يفرض خيارات على حكومة الخرطوم تضعف من قوتها في تحديد مسار المستقبل الجنوبي او حتى في حل ازمتي دارفور والجبهة الشرقية. ذلك ان ابرز استحقاق يتوجب على الحكومة المركزية القيام به حسب قرنق هو أن تعمل بجد لتنمية الجنوب، ومنع الجنوبيين من اختيار الانفصال. واذا ما انتهت المرحلة الانتقالية بهكذا خيار فإن الشمال سيفقد ابرز مقوماته المتمثلة بحقول النفط التي تمد الحكومة بإيرادات حيوية، ويعني ذلك تحويل هذه الثروة الى الجنوبيين الذين يعطيهم اتفاق السلام الحالي ما يقرب من نصف قيمتها.‏‏

على أي حال فإن قرنق اضافة الى توليه منصب النائب الاول للرئيس السوداني بصلاحيات واسعة فإنه سيتولى رئاسة منطقة الحكم الذاتي الموقت في الجنوب (بمشاركة شمالية ايضاً لكن مع ارجحية للجنوبيين طبعاً) وسيبقى قائداً لميليشياته التي ستحتفظ بسلاحها حيث يقدر عدد مقاتليه بنحو 80 ألفاً. وهذه الازدواجية في القوة ستتوزع على ثلاث قوى: الاولى الرسمية التابعة للدولة، والثانية جيش قرنق، والثالثة قوة مشتركة من الطرفين ستنتشر في العاصمة الخرطوم والمناطق الجنوبية، اضافة طبعاً الى القوات الدولية التي ستنتشر على الخط الفاصل بين الجنوب والشمال، والتي يمكن ان يكون لها دور مؤثر في رسم خارطة السودان الجديد، لان الملف الامني بمثل هذه الازدواجية يبدو مفخخاً ومحفوفاً بالمخاطر برغم النيات الايجابية جداً التي يبديها الطرف الشمالي تجاه شريكه الجنوبي، وخصوصاً ان الاطراف الخارجية ستسعى جهدها كي لا يكون السودانيون هم من يقررون مصيرهم وحدهم فقط.‏‏

عبد الحسين شبيب‏‏

جون قرنق العائد من الأدغال الى الخرطوم نائباً للرئيس‏‏

ولد جون قرنق في العام 1945 لأسرة من قبائل "دينكا" الجنوبية المعروفة بعبادة السماء وعزف الموسيقى باستخدام قرون الكباش وحبها للحوم المشوية.‏‏‏

أرسلته عائلته المسيحية إلى الولايات المتحدة لتلقي تعليمه العالي فدرس في كلية "جرنيل ـ أيوا" وحصل على الدكتوراه في الاقتصاد.‏‏‏

كان أول اختبار لقرنق في العام 1962 يوم أرسل ليشارك في حرب العصابات في بداية الحرب الأهلية مع حركة "أنانيا" الجنوبية، وبعد عشر سنوات وقعت الحكومة المركزية اتفاقا مع الحركة وصار الجنوب منطقة حكم ذاتي، واستوعب الجيش السوداني قرنق ضمن صفوفه برتبة نقيب، ثم سافر إلى أميركا للدراسة والتدريب، وما إن رجع عام 1981 حتى عين عقيداً في الجيش.‏‏‏

كلف في العام 1983 بإخماد تمرد قامت به كتيبة من الجنوبيين قوامها نحو 500 جندي، لكن "العقيد" بدلا من أن يخمد المتمردين أعلن نفسه زعيما عليهم، وليشكل بذلك أول نواة للجيش الشعبي لتحرير السودان، الجناح العسكري للحركة الشعبية لتحرير السودان.‏‏‏

في العام 1984 فتح الرئيس الأثيوبي الأسبق منغستو هيلا مريام أراضي أثيوبيا أمام قرنق، وسمح له باستخدام مستودعات أديس أبابا العسكرية، وأجهزة إعلامها، والبث المباشر منها الى السودان.‏‏‏

وقع قرنق في العام 1986 وثيقة "كوكادام" مع حكومة المشير عبد الرحمن سوار الذهب في أديس أبابا، لكن التوتر عاد بين الجنوب والخرطوم بوصول حكومة الصادق المهدي المنتخبة بعد شهر من توقيع الوثيقة التي رفضت الحكومة الجديدة الاعتراف بها.‏‏‏

وقع في العام 1988 مبادرة السلام السودانية مع الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي يتزعمه محمد عثمان الميرغني.‏‏‏

وبموجب اتفاق السلام الذي وقعه مع الخرطوم في كانون الثاني/يناير 2005 أصبح جون قرنق نائبا أول لرئيس الجمهورية في بداية مرحلة انتقالية تستمر 6 سنوات يقرر بعدها الجنوبيون في استفتاء، الوحدة أو الانفصال عن الوطن الأم السودان.‏‏‏

2006-10-28