ارشيف من : 2005-2008

تفجيرات لندن: بورصة تفسيرات للتعمية على التفسير الحقيقي

تفجيرات لندن: بورصة تفسيرات للتعمية على التفسير الحقيقي

الانتقاد/ دوليات ـ العدد 1118 ـ 15 تموز/ يوليو 2005‏‏

"مضيف فرنسي ومدير أعمال نيجيري ومحاسب من جزيرة موريس ودليل سياحي أميركي وطبيب أسنان روماني وشخص إسرائيلي هارب من التفجيرات في بلده".. كل هؤلاء "الأجانب" كانوا في عداد ضحايا تفجيرات لندن الأخيرة التي جرى إبرازها، كما في هذا الخبر الذي يحمل صفة دعائية وانحيازية واضحة، بوصفها هجمات تستهدف العالم بأسره أكثر مما تستهدف العاصمة البريطانية التي أبرزت أيضاً ـ لا بوصفها عاصمة بريطانيا المشاركة في احتلال العراق وأفغانستان والمعروفة بمواقفها التاريخية والراهنة في معاداة قضايا الحرية الحقيقية في العالم ـ بل بوصفها المدينة التي "توحد العالم والتي ضربت في تعدديتها" وفي استضافتها للكثيرين ممن يفرون من الدكتاتورية وانعدام الأمن الاقتصادي في بلدانهم.‏‏

ومن دون التوقف لمناقشة هذا المنطق التقليصي والتبعيضي وبالتالي غير الموضوعي في طرح المشكلة من زوايا أقلها أن لندن وغيرها من حواضر الغرب التي تتباهى بعالميتها وتعدديتها الثقافية والحضارية والدينية، تستضيف أيضاً كثيرين ممن يحملون إليها ثرواتهم المنتهبة من بلدان العالم الإسلامي، والثالث، المدمرة اقتصادياً بعد قرون من النهب الخارجي وعقود من الفساد الداخلي المبرمج خارجياً، إضافة إلى كثيرين ممن يُستقبلون فيها كعبيد عصريين لملء الفراغات في الوظائف الوضيعة التي يترفع عنها المواطنون "الأحرار" بحسب المصطلح المتعارف عليه في حواضر الغرب القديمة.‏‏

وإذا كانت الآلة الإعلامية وجوقة السياسيين قد سعت إلى الاستثمار إلى أقصى حد ممكن في طبيعة الهجمات كعمل يستهدف العالم بأسره، فإن هذا المسعى قد أدخلها، ما دامت أصابع الاتهام قد اتجهت منذ البداية نحو الإرهاب الذي حرص المعنيون على إسناده إلى المتشددين الإسلاميين، في حالة من الحرج منشؤها، في ظل تجنب الخطاب الرسمي لأنواع التفسيرات البدائية التي يكتفى عادة بتقديمها على شكل إيحاءات تتلقفها الغرائز وتترجمها من خلال الاعتداء على المساجد والأشخاص، منشؤها صعوبة تقديم تفسيرات مقبولة لهذه العدوانية غير المبررة من قبل المتشددين الإسلاميين تجاه العالم بأسره. فالمعروف أن هؤلاء المتشددين لا يكفون عن الربط المباشر بين ما يقومون به من أعمال وسياسات العدوان التي تمارس في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من قبل "إسرائيل" والولايات المتحدة وحلفائها، وفي طليعتهم بريطانيا تحديداً. وهذا بالضبط ما تجنبته التحليلات المعمقة حول ما وصف بأنه ظاهرة إرهابية جديدة نوعياً تستهدف أوروبا، وتتميز بأن نشطاءها مولودون في أوروبا وقلقون حضارياً ومعيشياً وتحركهم اعتبارات "أممية إسلامية" لا علاقة لها بالقضايا القطرية، أي بما يجري في هذا أو ذاك من البلدان الإسلامية. وكل ذلك لكي يصبح القول ممكناً بأن الذين نفذوا الهجمات على لندن وقبلها على مدريد، لم يفعلوا ذلك ـ خلافاً للهجمات على نيويورك وواشنطن ـ رداً على ما يجري في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها. وبالطبع يدعم المحللون وجهة نظرهم هذه بأدلة من نوع أن تنظيم القاعدة لا يضم في صفوفه كثيراً من الفلسطينيين، ولا يمارس نشاطاً عسكرياً في الأراضي التي تحتلها "إسرائيل".‏‏

لهذا مثلاً خضعت تصريحات رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني التي تخوف فيها ـ على أرضية اعتزام بلاده سحب قسم من قواتها العاملة في العراق ـ من حدوث هجمات إرهابية على بلاده، لتصويبات فورية من قبل زعماء أوروبيين أعادوا تأكيد أن الهجمات تستهدف أوروبا كلها، لا بلداً بعينه، وذلك في جهد واضح للتعمية على العلاقة بين تفجيرات لندن والمشاركة البريطانية أو الإيطالية في الحرب على العراق.‏‏

ومع ذلك فإن الواقعية لم تخل المجال بشكل كامل للتفسيرات التهويمية، إذ إن العديد من المراقبين الغربيين أعادوا التذكير بالبديهيات المتمثلة بكون تفجيرات لندن هي رسالة موجهة إلى ما يسمى بـ"الباءات الثلاث" (بوش، بلير، برلسكوني)، بوصفهم أصحاب القرار في الحرب على العراق وفي استمرار هذه الحرب. وإذا كان أشخاص مدنيون لا تربطهم علاقة مباشرة بقرارات القادة أو يتظاهرون بالملايين لإدانة هذه القرارات، كما حصل في روما وفي لندن بالذات في شباط/ فبراير 2003، هم من يسقطون ضحايا للتفحيرات، فإن ذلك واحد من مظاهر المآسي التي يتخبط فيها عالم اليوم نتيجة للسياسات الاستكبارية. كما أن الاقتصار على تحميل المسؤولية الحقيقية لطرف واحد وتفسير الدوافع بشهوة إراقة الدماء ليس كافياً لتبرئة الباءات الثلاثة الذين سيكون عليهم في يوم ما أن يقدموا حساباً إلى شعوبهم بسبب مغامرات الغزو الاستعماري التي يزجونهم فيها، وقبل ذلك إلى شعوب البلدان التي يخضعونها لأعتى أشكال القتل والتدمير التي يسقط فيها يومياً مئات وآلاف الضحايا الأبرياء حقاً. وإذا كانت مليون زهرة من زهور شقائق النعمان قد نثرتها من الجو طائرة بريطانية شاركت في الحرب العالمية الثانية، على رؤوس المحتفلين بذكرى توقف القصف النازي على لندن الذي استمر طيلة أربع سنوات خلال الحرب العالمية الثانية، فقد أسهمت في إشاعة الانطباع بأن بريطانيا في حالة دفاع عن النفس مقابل الإرهاب، مثلما كانت كذلك مقابل النازية، فإن هذا المنطق التعبوي والمليء بإسقاطات لا تسقط في محلها، ليس منطقاً من شأنه أن يفيد في حل مشكلة يُعضُّ فيها على الأصابع من طرف واحد، هو المتشددون الذين يزدادون عدداً وتشدداً مثلما يزدادون قدرة على توجيه الضربات.. ما يعني أن الغربيين وامتداداتهم قد أصبحوا أكثر حاجة من غيرهم إلى حل جدي للمشكلة. وللحقيقة كان طوني بلير محقاً خلافاً لعادته، عندما صرح بأن حل مشكلة الإرهاب يجب أن يمر بالبحث العميق عن مسبباته. ولكن هل سيتجه البحث نحو الأسباب الحقيقية والبديهية أم أنه سيقتصر على المعهود من المناورات المبتكرة والطائشة وغير المجدية؟‏‏

عقيل الشيخ حسين‏‏

2006-10-28