ارشيف من : 2005-2008

الملف النووي الايراني:فشل يزيد من التخبط الأميركي في المنطقة

الملف النووي الايراني:فشل يزيد من التخبط الأميركي في المنطقة

الانتقاد/ مقالات ـ العدد1123 ـ 19 آب/ أغسطس 2005‏‏‏

لم يأت القرار الذي أجمع عليه مجلس حكام وكالة الطاقة الذرية حول الملف النووي الايراني الأسبوع الماضي، والذي دعا الجمهورية الاسلامية إلى إعادة تجميد جميع أنشطة التخصيب النووي على قدر التهديدات التي ارعدت بها واشنطن وبعض الدول الأوروبية آذان العالم، فهو لم يُحل الملف الايراني إلى مجلس الأمن، كما أنه أعطى الوكالة ومجموعة الثلاث مهلة إضافية للتوصل مع ايران حول تسوية ما تنتهي في الثالث من أيلول/ سبتمبر القادم، ومرد ذلك إلى كون الملف الايراني لا غبار عليه من الناحية القانونية، مع بروز ثبات صلب في موقف الجمهورية الاسلامية تجاه عدم تنازلها عن حقها الطبيعي، ووجود شكوك معتد بها حول قدرة المهددين على تنفيذ تهديداتهم.‏‏‏

فإيران قامت في العام 2004 بوقف طوعي لجميع أنشطة التخصيب النووي تعبيراً عن حسن نيتها في استخدام الطاقة النووية، وافساحا بالمجال للوكالة والعالم للتحقق من سلمية برنامجها النووي، وهي أبدت كامل استعدادها لتقديم أي ضمانات من أي نوع كانت للتأكيد على سلمية برنامجها النووي، ودخلت لهذه الغاية في مفاوضات عميقة مع مجموعة الدول الأوروبية الثلاث "فرنسا وألمانيا وبريطانيا"، ولكنها وجدت أخيرا أن هناك تسويفا ومماطلة من قبل هذه المجموعة المثقلة بالضغوط الأميركية الهادفة إلى منع الجمهورية الاسلامية من امتلاك تقنية الدورة النووية الكاملة، علما أن القانون الدولي يعطي ايران الموقعة على البروتوكولات الاضافية لمعاهدة الحد من انتشار اسلحة الدمار الشامل ومن بينها معاهدة (MPT) يعطيها الحق الكامل في امتلاك هذه التقنية، لا بل تنص بنود المعاهدة على ضرورة أن تقوم الدول المالكة لهذه التقنية بتزويدها للدول غير المالكة لها والموقعة على الاتفاقيات المذكورة.‏‏‏

وفي ظل إجماع ايراني على عدم امتلاك السلاح النووي وصدور فتوى من أعلى المراجع الدينية تحظر امتلاك السلاح النووي لأنه يتناقض مع مبادئ الشريعة الاسلامية السمحاء، والذي واكبه أيضا إصرار إيراني على عدم التنازل عن الحق في امتلاك التقنية الكاملة لدورة التخصيب النووي، استمر المفاوضون الأوروبيون بمحاولاتهم الحثيثة لاقناع طهران بالتنازل عن هذا الحق، وهم وصلوا إلى حد تقديم عروض سخية جدا كتزويد ايران بمفاعل نووي جاهز بكل مراحله، وتقديم جميع التسهيلات بما يتعلق بقطع الغيار ـ ما يبقي ايران في محور الدول المستهلكة ـ وصولا إلى تقديم وعود بإسقاط قانون داماتو الذي تستخدمه الادارة الأميركية لفرض العقوبات على الجمهورية الاسلامية.‏‏‏

وتبدو لافتة هذه الاستماتة في ثني ايران عن امتلاك ما هو من حقها في حين لا توجه أية أنظار أو ما شابه إلى دول أخرى في المنطقة غير موقعة على اتفاقيات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتجاهر في امتلاك السلاح النووي، لا بل تقيم التجربة تلو الأخرى في سبيل تعزيز قدراتها النووية العسكرية، لتأتي المماطلة والعرض الأوروبي الأخير الذي يدعو ايران إلى التخلي تماما عن تقنية التخصيب، وحتى القرار الأخير لمجلس حكام الوكالة، ما دفع إيران إلى التعبير بصريح العبارة عن جديتها في امتلاك التقنية النووية، فقامت وكمرحلة أولى بإعادة تشغيل محطة اصفهان بمراقبة من الوكالة الدولية، وخاصة أنها ترى أنه ومع عدم قانونية ما تدعوها إليه الوكالة ترى أن القضية باتت سياسية مرتبطة بمواقف الجمهورية الاسلامية حيال ما يجري في المنطقة، وعدم إذعانها للسياسة الأميركية إن كان في العراق أو ايران أو سوريا وحتى لبنان وفلسطين.‏‏‏

عناصر القوة الايرانية‏‏‏

إزاء كل ما يجري فإن إيران تستند في ما تقوم به إلى جملة عوامل داخلية وخارجية تعطيها قوة وثباتاً في مواقفها، وتجعلها غير آبهة بالتهديدات العدوانية المباشرة التي تطلقها الولايات المتحدة الاميركية والكيان الصهيوني مداورة، فعلى الصعيد الداخلي تعيش ايران اجماعا وطنيا وشعبيا شاملا على هذه النقطة بالذات، ووحدة موقف بين جميع مؤسسات الدولة الايرانية بما فيها الحكومة ومجلس الشورى، كما أن الحكومة الجديدة وصفت بأنها حكومة استعداد لمواجهة اي عدوان أميركي، الذي تظهر مؤشراته بالتهديدات والحملات الاعلامية، والاستخدام الأميركي لبعض الأكراد الايرانيين عبر حزب العمال الكردستاني لإثارة القلاقل في إيران، علاوة عن الدعم لمنظمة منافقي خلق، علماً أن هاتين المنظمتين موضوعتان على اللائحة الدولية للارهاب، إضافة إلى القوة العسكرية الايرانية التي لا يستهان بها، وتوزيع المفاعلات النووية بطريقة يصعب ضربها كلها دفعة واحدة. أما على الصعيد الخارجي فهي تستند أولا إلى قانونية ونظافة ملفها النووي، ومسؤولو الوكالة الدولية ما انفكوا يؤكدون أن لا دليل لديهم على أن برنامج ايران النووي غير سلمي، وآخره اقرار أحد المسؤولين بأن ما أشيع حول المواد الملوثة التي وجدت في ايران هي بالفعل وكما قالت ايران مصدرها من الخارج، وأن ايران اشترتها ملوثة، وثانيا إلى دعم الأصدقاء الدوليين كروسيا والصين وعدم الإجماع الدولي ثالثا (الرد الألماني العنيف على تهديدات الرئيس الأميركي لايران) ومواقف بعض الدول الأعضاء في الوكالة الدولية وتخوفهم من أن ينسحب ما يجري على ايران عليها أيضا، وثم الوضع الاقليمي بما فيه التخبط الأميركي في المنطقة، كل ذلك يجعل من الصعب القيام بأي مغامرة اتجاه ايران إن كان عسكريا أو غير ذلك، فعسكرياً ستستدعي أي ضربة لأي مفاعل نووي ايراني رداً ايرانياً قاسياً، فالقواعد العسكرية الأميركية وإن كانت تحاصر إيران مباشرة من آذربيجان، وحتى تركيا، فهي تقع جميعها تحت مرمى النيران الايرانية، وبالتالي الثمن سيكون باهظاً، وعليه فالأضرار الجسيمة ستطال الجميع، هذا عدا عن عدم وجود أي اجماع دولي أو مباركة دولية للولايات المتحدة، وعدم امكانية توافرها للقيام بذلك، كما أن "إسرائيل" لن يكون بمقدورها امتصاص الرد الايراني في حال أقدمت على مغامرة كهذه، أما على صعيد مجلس الأمن فإحالة الملف إليه وإن كانت أمراً مستبعداً من وجهة النظر الايرانية، فإن ذلك لن يضر ايران بشيء، وخاصة أنها تخضع لنظام عقوبات أميركي مفروض عليها، وهو أمر مكنها من الاكتفاء ذاتيا في العديد من المجالات، كما أن الولايات المتحدة لن تجد الاجماع المطلوب داخل مجلس الأمن لاتخاذ ما تأمل من قرارات، فروسيا مرتبطة مع ايران باتفاقات نووية تعود عليها بمردود مالي وفير، كما أن غالبية الواردات النفطية الأوروبية مصدرها الجمهورية الاسلامية، وهذه ورقة تُلعب دون أن تنجح في اسقاطها واشنطن منذ زمن.‏‏‏

وبالمحصلة لا يمكن أن يبقى الملف عالقا هكذا، ولا بد له من أن يصل إلى نهاية ما، وهذه النهاية تتعلق بالجدية الأوروبية وموضوعيتها والتزامها بقوانين الوكالة الدولية، وبالقدرة الأوروبية على التحلل من الضغوط الأميركية، وبثبات الموقف الايراني الذي أثبت حتى الآن عقلانيته وقانونيته.‏‏‏

محمد يونس‏‏‏

2006-10-28