ارشيف من : 2005-2008
الذكرى الستون لأول تجربة نووية أميركية : بين ندم العلماء وحسرة السياسيين

"بدأنا العمل بحماسة ولذة ومن دون تفكير بالعواقب، وكنا مقتنعين بأننا نعمل لسبب وجيه".
ذلك ما قاله ريتشارد فاينمان، أحد مصممي الجيل الأول من القنابل الذرية الأميركية، في معرض حديث له عن التجربة التي خاضها عشرات العلماء الفيزيائيين ومئات المهندسين الذين انتقلوا بأكثريتهم من أوروبا قبيل وأثناء الحرب العالمية الثانية، للعمل في "مشروع مانهاتن" الذي بدأ في أواخر الثلاثينيات، وأفضى في 16 تموز/ يوليو 1945 إلى إجراء أول تفجير نووي تجريبي في التاريخ في منطقة آلاموغوردو الواقعة في صحراء نيو مكسيكو جنوبي الولايات المتحدة الأميركية. ولكن التفكير في العواقب لم يلبث أن بدأ بعد "النجاح المذهل" الذي حققته التجربة، وخصوصاً بعد قيام الجيش الأميركي بإلقاء القنابل الذرية على هيروشيما وناكازاكي بأمر من الرئيس الأميركي ترومان، حيث أُزهقت أرواح مئات الألوف من المدنيين في وقت كانت السلطات اليابانية تبحث فيه عن وساطات دولية لإقناع الأميركيين بقبول استسلام اليابان من دون قيد أو شرط. وأفضى ذلك التفكير إلى ندم العديد من العلماء الذين اعترف بعضهم بـ"الوقوع في الخطيئة" بعد اعترافهم منذ العام 1942، بمناسبة النجاح في صنع أول بطارية ذرية، بأن اليوم الذي سُجل فيه ذلك النجاح هو "يوم أسود في تاريخ البشرية".
ندم العلماء واعترافهم بالذنب هيمنا على تحليلات المعلقين الغربيين في معرض اهتمامهم بالذكرى الستين لأول تفجير نووي تجريبي، قبل أسبوعين من الذكرى الستين لأول تفجير "عملي" نفذه السياسيون الأميركيون في الأول من آب/ أغسطس 1945 على المدن اليابانية، مفتتحين بذلك عصر الرعب النووي الذي يحاول الأميركيون منذ عقود وبالكثير من النفاق، وضع حد لتوسعه وانتشاره، ولكن بعد أن أصبح الحصول على القنابل النووية "النظيفة" و"القذرة" وصنعها بمستوى سهولة تصنيع البيتزا والهامبرغر. وإذا كان العلماء ـ الذين يحرص الإعلام الغربي على تصوير خوفهم المشروع من ألمانيا النازية ومشاريعها الجهنمية بأنه المحفز الأول للصناعة النووية وتأثيراتها على عالم اليوم ـ قد ندموا على ما اقترفت أيديهم، فإن ذلك الندم يستخدم صكَّ براءة للسياسات الأميركية والإسرائيلية التي طالما استخدمت الابتزاز.. والابتزاز النووي بخاصة.. وسيلةً حاسمة لفرض الهيمنة على الشعوب، ولإعادة رسم خرائط المناطق. ولكن هذه السوفسطائية التي يمكن أن تكون قد نجحت إلى حد ما في إخفاء أنياب الذئاب تحت أقنعة الحملان الوديعة، قد شارفت فيما يبدو على التهافت، مفسحة في المجال لبدء الحديث عن "ندم" السياسيين. فالسلاح النووي أداة ـ الابتزاز الرئيسية ـ بدأ يتكشف منذ انهيار الاتحاد السوفياتي برغم قدراته الهائلة في هذا المجال، عن العجز الفاضح في فرض مسارات التاريخ.. ليس فقط بسبب مقولات التوازن والردع النوويين، بل خصوصاً بسبب قدرة الشعوب وقياداتها الرائدة على اختراق المعادلات "المتعوب" عليها بواسطة استراتيجيات وتكتيكات سياسية وعسكرية "غير متوقعة" تستثمر في لا نهائية المعطيات الواقعية التي بدأت تثبت قدرتها على تحييد الهراوة النووية وتحويلها إلى مجرد وثن أبله أصبح ضرره على أصحابه أكثر من نفعه، عندما عرف المجاهدون الجديّون ـ على المسرح الشرق الأوسطي مثلاً ـ كيف يسدون الثلمة ويغتنمون الفرصة ويضعون المستكبرين في وضع من اللاحراك المفضي إلى التدهور والندم، كما هو ملحوظ في المأزق الذي وقعوا فيه عندما ظنوا بأن القرار 1559 مثلاً، سيكون انعطافاً حاسماً نحو إعادة الحياة لعمليات التطبيع والارتصاف المعمم التي أزهقتها المقاومة في الجنوب اللبناني وفلسطين المحتلة.
ع.ح.
الانتقاد / دوليات ـ العدد 1119 ـ 22 تموز/يوليو2005