ارشيف من : 2005-2008

جمهورية الموت:نهاية العراق

جمهورية الموت:نهاية العراق

يبدو العراق اليوم غارقاً إلى أخمص قدميه في القتل، وما عادت قواميس اللغة، أي لغة، قادرة على تقديم عبارات تصف هول الجرائم المرتكبة، التي تقرّب هذا البلد أكثر فأكثر نحو أتون حرب أهلية لا يُعرف متى اشتعل أوارها كيف تنتهي وبأي كوارث.. وهذا المصطلح ـ أي الحرب الأهلية ـ كان حاضراً بقوة في جلسات بحث مكثفة في مجلس الشيوخ الأميركي حول الحرب في العراق بدأت الاثنين الماضي (18/7) بعرض آراء خبراء عبروا عن "قلقهم" خصوصاً من وقوع مثل هذه الحرب. وضمت جلسة الاثنين التي تمحورت حول الأمن في العراق الجنرال والأستاذ المتقاعد في الأكاديمية العسكرية في "ويست بوينت" باري ماكافري والخبيرين كينيث بولاك من معهد "بروكينغز" وأنتوني كوردسمان من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية. واتفق الثلاثة على تأكيد أهمية الأشهر الـ18 المقبلة.‏

وبين التقييمات التي تُدوولت في النقاش الصاخب ما ذهب إليه الجنرال ماكافري، من أن "التمرد" في العراق سيبلغ ذروته في كانون الثاني/ يناير 2006، وبدء الانسحاب الأميركي سيكون لا مفر منه خلال عام. أما بولاك فدعا إلى استراتيجية تعطي الأولوية لمكافحة "التمرد"، بدءاً بإقامة مناطق آمنة تخضع لإدارة جيدة وتستفيد من خدمات عامة وتوسيعها تدريجياً إلى حد نسف موارد ودوافع "المتمردين". أما الجنرال ماكافري فإن مداخلته تركزت على ضرورة تجنب أن تخرج الحرب الأهلية "غير المكثفة" الجارية حالياً عن السيطرة بسبب غياب الحكومة أو انسحاب معجل".. فيما خلص كوردسمان إلى أن خطر الحرب الأهلية بين المجموعات العراقية "فعلي". هذه المداولات في المؤسسة التشريعية الأميركية المطالبة حالياً بدور رقابي أكثر فعالية على سياسات ادارة جورج بوش المخصصة للعراق، التي يبدو أنها تصاب بالإخفاق تباعاً وتظهر عجزها عن وضع هذا البلد على الطريق الذي وعدت به عشية شن الحرب عليه، اتضح بعد أكثر من سنتين على غزوه ان العراق تحول من جمهورية الخوف الى جمهورية الموت، وأن القدرة على السيطرة عليه فقدت، وأن الحلول التقليدية ليست ناجعة. وإذا كان حديث الانسحاب الاميركي المبكر من المستنقع العراقي بدأ يعلو ويتخذ موقعاً متقدماً في الأحاديث الأميركية الرسمية وغير الرسمية، وأيضاً على المستويات العالمية الأخرى، فإن ادارة بوش التي تلقت في أول أيام الغزو نصيحة من أحد أركانها السابقين السفير مارتن أنديك، من ان الفتنة بين العراقيين هي الطريق الوحيد لتبسط الولايات المتحدة نفوذها في العراق، تعمل على ان تشق هذه النصيحة طريقها بسهولة بعدما عبدتها دماء عشرات آلاف العراقيين الذين يسقطون يومياً بوتيرة لا سابق لها، وبطريقة تظهر ان لا محرمات في هذه الحرب، حيث ان الخطاب يقوم الآن على ركيزتين بالنسبة لمستقبل الاحتلال الأميركي: واحدة مصدرها داخلي أميركي يطالب بوضع حد للخسائر التي تتكبدها هذه القوات عبر الإسراع في سحبها من العراق، وآخر داخلي عراقي يحجم عن المطالبة بالانسحاب في الوقت الراهن، او بالأحرى يرفض مثل هذه الخطوة لأن الحكومة العراقية الحالية بمختلف أجهزتها غير قادرة على ضبط الأمن ووضع حد للتفجيرات والهجمات اليومية، التي شهدت في الآونة الأخيرة تزايداً في الكمية وشراسة في التنفيذ وعشوائية في الأهداف، موفرة بذلك خطاباً يطالب ببقاء الاحتلال وليس بانسحابه تخوفاً من الآتي الأعظم. وهذا بالضبط ما يبدو ان ادارة بوش قد تعمل على توظيفه حالياً، اذ يمكن لها ان تجري عملية إعادة انتشار وتمركز في نقاط وتجمعات محددة في العراق تضمن لها من ناحية تأمين المصالح الحيوية التي تتوخاها من وجودها العسكري المباشر في هذا البلد، وتقلل من ناحية أخرى حجم الخسائر البشرية والمادية التي تتكبدها جراء توسيع رقعة انتشارها واضطلاعها مباشرة بمهام ضبط الأمن في بعض المناطق. وفي المقابل تفسح في المجال لتولي قوات الأمن العراقية مسؤولياتها من دون ان يعني ذلك وضع حد لدائرة العنف التي تجتاح العراق، بل ربما توسيعها، لأن منفذيها فتحوا معركتهم مع المجموعة العراقية التي تتولى حالياً السلطة على كل الاحتمالات وضد أي هدف متوافر دون ان يكون له أي مسوغ ولغاية واحدة فقط هي إنزال أكبر قدر ممكن من الخسائر البشرية في صفوف هذه المجموعة، سواء أكانوا أطفالاً او نساءً او عجزة، اضافة طبعاً الى عناصر الشرطة والجيش والمتطوعين في هذين الجهازين الذين يجري إنشاؤهما. وهذا ما أظهرته موجة الاعتداءات الانتحارية الأخيرة في المسيّب التي تفتقت عن أساليب مروّعة في إلحاق الأذى بشريحة من العراقيين عبر تفجير أشخاص أنفسهم بأي تجمع بشري من دون ان يكون وراءه هدف أمني! فاعتداء المسيب الذي أوقع نحو ثمانية وتسعين شهيداً عراقياً نُفّذ قرب أحد مساجد المسلمين الشيعة وفي سوق شعبية مزدحمة للخضار، وكان هذا الاعتداء واحداً من خمسة عشر هجوماً انتحارياً خلال 48 ساعة فقط في العاصمة وعلى طول الطريق السريع المؤدي الى الجنوب. وتأتي مجزرة المسيب وهي الأسوأ منذ تولي الحكومة الجديدة السلطة في أبريل/ نيسان الماضي في إطار سلسلة من التفجيرات الانتحارية التي قال تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين إنها جزء من هجوم للسيطرة على بغداد، داعياً أنصاره في العالم العربي والإسلامي الى الانخراط في حربه هذه، حيث تشير تقارير عراقية وأميركية الى انتحاريين أتوا من دول عدة لهذه الغاية ونفذوا سلسلة هجمات انتحارية.‏

ودفعت حصيلة القتلى في هجوم المسيب وهي الأعلى في هجوم واحد منذ مقتل 125 شخصاً في هجوم وقع في فبراير/ شباط الماضي في مدينة الحلة، عدداً من أعضاء الجمعية الوطنية الى توجيه انتقادات لوزارتي الدفاع والداخلية لفشلهما في القضاء على موجة العنف هذه. لكن البارز في سلسلة الانتقادات العنيفة هذه هو الدعوات الى تشكيل ميليشيات محلية تتولى بنفسها حفظ الأمن ومنع الهجمات على العراقيين.. ومثل هذه الاقتراحات تدفع قدماً نحو تقسيم العراق وتعجيل تطبيق الفدرالية التي ربما باتت خياراً مقبولاً اذا كانت ستؤدي الى وضع حد لسيلان الدم العراقي هذا، سيما ان الفتنة أطلت برأسها من خلال ردود الفعل على بعض الهجمات الانتحارية.‏

على ان اللافت في كل ما يجري في العراق، هو الصمت المريب الذي يعم العالم الإسلامي بشكل عام، وعدم الاستنكار الواضح والصريح لما يجري من فتك بالأبرياء، ما يشير الى ان أطرافاً عديدة متواطئة ضمنياً ان لم يكن فعلياً بما يجري. وهذا كله يصب في مصلحة بقاء الاحتلال الأميركي، وإن كان بأشكال مختلفة من دون إغفال دوره في بعض الاحداث لتعزيز الانقسامات المذهبية والأخذ بالأمور نحو فتنة تطيل امده في هذا البلد، وتتيح له مد اليد الى دول أخرى يضمر لها الشر.‏

عبد الحسين شبيب‏

الانتقاد / عربيات ـ العدد 1119 ـ 22 تموز/يوليو 2005‏

2006-10-28