ارشيف من : 2005-2008
بين الاستنكار والاستغلال الانتهازي:توسع النشاط الإرهابي وضرورة التعريف الموضوعي للظاهرة

الانتقاد / مقالات ـ العدد 1120 ـ 29 تموز/ يوليو 2005
تفجيرات لندن أثارت حالة من الهلع الشامل في بريطانيا والغرب ترافقت مع ردود فعل عنصرية ضد المسلمين وغيرهم من الملونين. وإلى جانب ما قوبلت به التفجيرات من استنكار، يعترف المراقبون بأنها قد دفعت باتجاه الدراسة الجدية للأسباب الحقيقية للإرهاب وباتجاه وضع تعريف موضوعي للظاهرة الإرهابية، بعيداً عن المحاولات الهادفة لاستخدامها كمبرر لديماغوجية بعض الحكام ولسياسات العدوان على الشعوب.
الموجة الثانية، أو الفاشلة، من تفجيرات لندن (21 تموز/ يوليو) لا تقاس بالموجة الأولى (7 تموز/ يوليو) لجهة ما أوقعته من خسائر في الأرواح: لا شيء مقابل أكثر من خمسين قتيلاً ومئات الجرحى. ومع هذا، فقد دفعت بريطانيا خطوة واسعة نحو مكابدة واقع جديد يحكمه شبح الإرهاب الدائم، بعد أن كانت موجة التفجيرات الأولى قد أصبحت كذكرى ابتعدت عن الأذهان مخلفة فيها انطباعاً بأن العاصمة البريطانية قد نالت حصتها أسوة بمدريد ونيويورك وواشنطن وغيرها، وصار بمقدورها أن تعود إلى مزاولة حياتها اليومية العادية. سبب آخر كان في أساس تولّد ذلك الانطباع تمثل في تكهنات المحللين الذين توقعوا، ودعموا توقعاتهم بأدلة منطقية متسرعة، أن ينتقل مسرح التفجيرات إلى إيطاليا أو الدانمرك. فشل الحسابات المنطقية هذه المرة عمّق الاعتقاد السائد عند المحللين الغربيين بأن عدم القدرة على توقع ما يمكن أن يصدر من تصرفات هو واحدة من السمات الرئيسية لتحركات الإرهابيين الذين غالباً ما يندفعون لأسباب غير معقولة وبأشكال غير معقولة. وإذا كان توكيد العجز عن التوقع قد برز، كالعادة، في جملة مصادر الارتباك والحيرة التي عمت الأوساط السياسية والأجهزة الأمنية، إضافة إلى الشارع في بريطانيا وغيرها من البلدان المعنية، فإن مصادر أخرى للقلق قد تولدت ـ بعد تفجيرات شرم الشيخ والإنذارات الكاذبة التي شهدتها نيويورك يوم الاثنين الماضي ـ عن قِصَرٍ الفترة الزمنية الممتدة بين كل تفجير وآخر. ما يعني أن القدرة على تنفيذ التفجيرات بهذه السرعة قد تدل على احتمال حدوث تفجيرات أخرى في المستقبل القريب. وما يعني أيضاً أن ترسيمة أخرى لقدرات الإرهابيين على الحركة يجب أن تحل محل الترسيمة التي كانت ترتكز إلى تطمينات بوش التي جرى فيها التأكيد، أكثر من مرة، بأن الأكثرية الساحقة من الشبكات الإرهابية قد تمت تصفيتها، وبأن الظاهرة الإرهابية باتت قريبة من الأفول.
وقاية ومكافحة
المحللون الذين اهتموا بتبيّن معالم الترسيمة الجديدة وضعوا في المقدمة اعتبارات، منها أن أجيالاً جديدة من الإرهابيين تنبثق بطريقة حرة ومستقلة عن شبكات القاعدة وغيرها، وأنها تتغذى على الشعور بالإحباط الواقعي أو "المتوهم" والمرتبط بما يجري في العراق وفلسطين والشيشان، مثلما تتغذى على عشرات مواقع الانترنت التي تطلق صيحات الانتصار بعد كل تفجير وتدعو إلى مواصلة الهجمات، ثم تزدهر عبر أوليات التجنيد التي تتم بمنتهى السهولة من خلال الاتصالات الهاتفية، تاركة نقل المهمات من مرحلة الفكرة إلى مرحلة التنفيذ لحالة "الإنئخاذ" التي تخلقها التفجيرات الشبيهة بمألوف معروضات السينما الأميركية، ولكن أيضاً للتركيز الإعلامي على أخبار التفجيرات. وفي هذه الأجواء المشحونة بالهلع والتي بات فيها التجول بحقيبة من النوع الذي يحمل على الظهر، أو ارتياد مقهى أو مطعم، أو الصعود إلى حافلة أو قطار، مثل مجازفة بالتعرض لخطر الموت، يتساءل المسؤولون عن أجهزة الأمن الغربية عن السبل الكفيلة بصد هذه الأنواع الجديدة من التهديدات المتعددة الأشكال. فمنهم من يقول باستحالة صدها بالاقتصار على الإجراءات الأمنية، ويدعو إلى مكافحتها فكرياً انطلاقاً من جذورها الإيديولوجية، كما ولو أن أجهزة الإعلام والثقافة تفعل شيئاً آخر غير التفنن في هذا الضرب من ضروب المكافحة. ومنهم من بات يقول بضرورة الفهم والتفهم بالعودة إلى الأسباب السياسية والاجتماعية للإحباط الناشئ، عند شرائح واسعة من المسلمين الشباب، عن مظلومية القضايا العربية والإسلامية ويدعو، بالفم الملآن، إلى وضع تعريف عالمي للإرهاب. ومنهم من تأخذه العزة بالإثم فينادي بقصف الكعبة وغيرها من الأماكن المقدسة الإسلامية. والخيار الأخير يبدو تملقاً واضحاً للصهاينة الذين يضيقون ذرعاً بالقدس ودورها الحساس في إثارة النقمة المتصاعدة. وقريب من هذا الخيار، لجهة النسب، مبدأ إطلاق النار بهدف القتل، الذي تم اعتماده من قبل السلطات البريطانية كسبيل "وقائي ناجع ضد الانتحاريين"، حيث صرح المسؤول السابق عن جهاز الأمن البريطاني بأنه قد أدخل هذا المبدأ بعد أن أرسل فرقاً من الأمنيين إلى "إسرائيل" لدراسة طرق الوقاية من العمليات الانتحارية التي تبين أن أفضلها هو تدمير دماغ الانتحاري بالرصاص، لأن إطلاق النار على صدره قد لا يمنعه من تفجير القنبلة حتى في لحظة وفاته.
أخطاء وتجاوزات عنصرية
وإلى جانب الطرق الرسمية هذه، نجد الطرق السريعة والمباشرة التي تعتمدها جماعات السكيندز اليمينية المتطرفة وغيرها من الجماعات التي بادرت، منذ الخميس الأسود الأول، إلى إطلاق نفير الحرب المفتوحة على المساجد والمنتديات والمحلات التجارية، وبالطبع على جميع الأشخاص الذين تدل ثيابهم أو ألوان جلودهم على احتمال كونهم من المسلمين، أو من الآسيويين، بحسب التعبير الدارج في بريطانيا. وقد سجلت الشرطة البريطانية نحو مئة اعتداء من هذا النوع برغم تصريحات الحبر الأعظم عن الطبيعة غير الدينية للأعمال الإرهابية، أو تصريحات طوني بلير عن حصر المسؤولية بجماعات متعصبة لا تعبر عن مشاعر المسلمين وتوجهاتهم. وما تنبغي الإشارة إليه أن الإغراء الانتقامي لا يقتصر على الجماعات غير المنضبطة، بل يتعداها أحياناً إلى رجال الشرطة حيث يلتقي بمبدأ إطلاق الرصاص بهدف القتل، وهو المبدأ الذي أدى إلى مصرع شاب برازيلي على يد شرطي بريطاني أفرغ في رأسه خمس رصاصات لمجرد الشبهة. وإذا كان من الممكن تفهم مثل هذه المسلكيات انطلاقاً من الأجواء العصبية التي فرضتها التفجيرات، فإن أجهزة الشرطة تنحي باللائمة في وقوع الأخطاء والتجاوزات على السياسيين البريطانيين، وما يمارسونه عليها من ضغوطات لهدف لا يخلو من الديماغوجية، هو الإسراع بتحقيق المزيد من الناجعية في منع حدوث الأعمال الإرهابية. وإذا كان من الممكن أيضاً تفهم القلق الأوروبي من توسع أعمال التفجير، والذي تتم ترجمته بإجراءات احترازية وأعمال مراقبة متشددة في جميع البلدان الأوروبية، فإن المثال الفرنسي يبدو لافتاً إلى درجة قريبة من الشذوذ. إذ برغم عدم ظهور مؤشرات تدل على إمكانية استهداف فرنسا بسبب موقفها من حرب العراق، لم يقتصر وقوف فرنسا إلى جانب بريطانيا في محنتها الحالية على الدعم الخطابي والمعنوي والزيارات التضامنية، بل تجاوز ذلك إلى فتح ما يشبه جبهة فعلية على إرهاب لم يحرك ساكناً في فرنسا، ولا يبدو عليه أنه يضع فرنسا في أولى أولوياته. وفي هذا الإطار، أنشأ رئيس الوزراء دومينيك دو فيليبان خلية أزمة، ورفعت درجة التأهب إلى البرتقالي بالتوازي مع تصريحات اتهمت عشرة أئمة وثمانين مسجداً في فرنسا بالتحريض على العنف، إضافة إلى المصالحة الفرنسية ـ الإسرائيلية التي دشنها شارون بمطالبة الفرنسيين بوضع حزب الله على لائحة المنظمات الإرهابية. وهناك أيضاً أحاديث بعض الصحف الفرنسية عن إعجاب وكالة المخابرات المركزية الأميركية بكفاءات الشرطة الفرنسية، وتميز خبرائها في معرفة عقليات السكان الخاضعين للمراقبة، وعن عزم الوكالة على إقامة شبكة ضخمة لمكافحة الإرهاب بالتعاون مع الفرنسيين للأسباب المذكورة. وفي ظل غياب المبررات المباشرة لهذا الموقف الفرنسي، يخشى للطابع شبه التحريضي لتصريحات بعض أصحاب الرأي الذين اعتبروا أن تشدد بعض أئمة المساجد في الحض، مثلاً، على عدم تناول المسكرات واللحوم غير المذكاة، كنوع من أنواع الدعوة إلى العنف... يخشى له أن يدفع بالجماعات اليمينية المتطرفة في فرنسا إلى الاقتداء بالجماعات المشابهة في بريطانيا، واستيراد مثالها في التحرش العنصري، مع ما ينطوي عليه ذلك من مضاعفات خطرة على فرنسا نفسها وعلى الجاليات الإسلامية فيها. ديماغوجية أخرى لا مسوغ لها فيما يبدو غير توهم المسؤولين الفرنسيين بأن بلير قد اكتسب تعاطفاً ثميناً بفعل التفجيرات، وبأن الحقن التحريضي داخل الساحة الفرنسية يمكنه أن يفسح في المجال للتعويض عن الأوضاع الحرجة التي يواجهها الحكم القائم بعد هزيمته في معركة الدستور الأوروبي، وفي ظل تخبطات سياساته الاقتصادية والاجتماعية على أعتاب المعركة الرئاسية. والمفارقة في الموقف الفرنسي أنه يمثل انتكاسة إلى البدائية بعد تفرد فرنسا الطويل بالدعوة إلى تفهم الأسباب الحقيقية للظاهرة الإرهابية، في وقت كان فيه طوني بلير نفسه قد أبدى ميلاً، حتى قبل التفجيرات، إلى احتضان تلك الدعوة، وإن بشكل مجتزأ، وفي وقت دفعت فيه التفجيرات بكوفي آنان إلى الإقتراب من مطلب بعض الدول العربية وغير العربية في وضع تعريف موضوعي للإرهاب يحول دون خلطه بالكفاح العادل الهادف إلى التحرر والتحرير، عندما وضع هذه المسألة على جدول أعمال القمة العالمية التي ستنعقد في سبتمبر/ أيلول القادم في نيويورك ضمن إطار أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
د. عقيل الشيخ حسين