ارشيف من : 2005-2008

موريتانيا: النظام الجديد بين الانفتاح الحذر والاستحقاقات الملحة

موريتانيا: النظام الجديد بين الانفتاح الحذر والاستحقاقات الملحة

الانتقاد/ عربيات ـ العدد 1122 ـ 12 آب/أغسطس 2005‏

بعد عشرين عاماً من القلق السياسي القريب من عدم الاستقرار، لكثرة ما شهدته موريتانيا خلالها، وفي ظل نظام الرئيس معاوية ولد طايع من انقلابات وانقلابات مضادة، ومن أحداث ومواقف حادة كتبادل العلاقات الديبلوماسية مع "إسرائيل"، والتشدد في ملاحقة الإسلاميين وغيرهم من قوى المعارضة، والحصول على مساعدات من المؤسسات المالية العالمية تبعها شطب المديونية العامة بقرار من مجموعة البلدان الصناعية الثماني، في 11 حزيران/ يونيو الماضي، دخلت البلاد في ما يبدو أنه مرحلة جديدة، مع الانقلاب العسكري الذي نفذ صبيحة الأربعاء في الثالث من آب/ أغسطس الجاري، بينما كان الرئيس ولد طايع قد وصل إلى نيامي، عاصمة النيجر، في طريق عودته من الرياض حيث شارك في تشييع جنازة العاهل السعودي فهد بن عبد العزيز. وبعد ساعات الغموض التي لفت الحدث بين الخامسة صباحاً وظهر الأربعاء، حيث تضاربت الآراء حول حقيقة ما يجري في ظل إقفال المطار ومحطتي الإذاعة والتلفزيون وظهور الآليات العسكرية في المناطق الاستراتيجية من العاصمة، وسماع عدد من الانفجارات غير بعيد عن مركز نواكشوط، انجلى الموقف بالتدريج عن قيام 17 ضابطاً، يتزعمهم العقيد أعلي ولد محمد فال، المدير العام للأمن القومي، والعقيد محمد ولد عبد العزيز قائد الحرس الجمهوري، بتشكيل "المجلس الوطني للعدالة والديموقراطية" الذي أعلن استيلاءه على السلطة، ووعد بتهيئة الأجواء لإقامة حكم ديموقراطي حقيقي في غضون عامين، وسط توقع تشكيل حكومة تكنوقراط انتقالية ترعى الإعداد لانتخابات عامة تشرف عليها لجنة مستقلة.‏

الشارع الموريتاني استقبل ما سمي بـ "الانقلاب الأبيض" بتأييد واضح حيث سارت عدة تظاهرات في العاصمة تحية للحرس الجمهوري وقوى الأمن، وسهرت نواكشوط طيلة الليل على أصوات أبواق السيارات التي جابت الشوارع تعبيراً عن الابتهاج بسقوط النظام "في بلد لا يعيش فيه غير الفاسدين واللصوص"، ويحكمه رجل يعيش في قصر مجاور للسفارة الأميركية ويربطه بها "نفق سري تحت الأرض" استخدمه ولد طايع في اللجوء إلى السفارة في الثامن من حزيران/ يونيو 2003، قبل فشل المحاولة الانقلابية التي دبرت ضده في ذلك الحين.‏

كل ذلك نقله مراسلو وكالات الأنباء عن ألسنة الناس العاديين الذين يأملون بأن يضع النظام الجديد حداً لتدهور الأوضاع الاجتماعية والمعيشية في البلاد.‏

إلا أنه لا يزال من المبكر تكوين تصور محدد عن التوجهات السياسية الخارجية والداخلية للنظام الجديد. فالحقيقة أن ما يوحي به إطلاق سراح العديد من الشخصيات السياسية المنتمية إلى المعارضة والحركات الإسلامية، والانفتاح الواضح على جميع القوى السياسية بما فيها الحزب الجمهوري (حزب ولد طايع) باختيار أمينه العام محمد ولد أبو بكر لرئاسة الحكومة الانتقالية، لا يبدو منسجماً بما فيه الكفاية مع إطلاق تصريحات تعهد فيها المجلس الوطني باحترام جميع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي صادقت عليها موريتانيا، بقدر ما قد يكون ذلك إشارة إلى الاتفاقيات المتعلقة بمكافحة الإرهاب والعلاقات مع "إسرائيل".‏

غير أن ما يمكن قوله بكل تأكيد هو أن النظام الجديد يبدي حرصاً واضحاً على تجنب المواقف الحاسمة التي من شأنها أن تكشف عن توجهاته الحقيقية. ولعل ذلك في مقدمة الأسباب التي لعبت في تليين لهجة القوى الدولية تجاه الانقلاب. إذ منذ اللحظات الأولى، وبالتوازي مع الهجمات الإعلامية الحادة في الصحافة الإفريقية والعديد من الصحف الغربية، وجهت الإدانات المباشرة إلى الحركة الانقلابية من قبل الاتحاد الإفريقي ممثلاً برئيس مفوضيته ألفا عمر كوناري الذي علق عضوية موريتانيا في الاتحاد، ثم من قبل المفوضية الأوروبية والأمم المتحدة، بينما علقت بعض المصادر الأميركية بأن الوضع في موريتانيا لم يكن يبرر اللجوء إلى وسائل غير دستورية.‏

وفي حين صرح مسؤول كبير في وزارة الخارجية الاسرائيلية بأن حكومته تنتظر لمعرفة أية علاقات سيقيمها النظام الجديد مع الأسرة الدولية، بدا أن الانتظار هو السمة الغالبة على مواقف البلدان العربية والبلدان المجاورة، وخصوصاً بلدان الاتحاد المغاربي وكذلك على موقف فرنسا، الشريك التجاري الأول لموريتانيا التي تشهد حالياً منافسة حامية بين النفوذين الفرنسي والأميركي فيها. غير أن بعض هذه المواقف لم تلبث أن اتجهت نحو الليونة مع وصول الأمين العام للاتحاد الإفريقي ووزير الخارجية الليبي إلى نواكشوط في إشارة إلى دخول الأوضاع في مرحلة جديدة يغلب عليها طابع الاستطلاع وجس النبض.‏

وأغلب الظن أن جهات دولية أخرى ستبادر إلى فتح جسور مع النظام الجديد الذي يبدو أنه قد نجح حتى الآن، بمواقفه المتوازنة خارجياً والمنفتحة، أو حتى "المتسامحة"، داخلياً، وعلى عكس المتعارف في العمليات الانقلابية المشابهة، في عدم إثارة مخاوف أية جهة مكتفياً بإطلاق عدد من الشعارات والوعود العامة حول إدارة اللعبة الداخلية في أجواء الشفافية والتداول الديموقراطي للسلطة. لكن ذلك لا يعني أن النظام الجديد سيتمكن من الاستمرار في قيادة اللعبة التوافقية إلى ما لا نهاية في ظل استحقاقات تتطلب حسماً سريعاً كمسألة العلاقات مع "إسرائيل"ن والموقف من الاتفاقيات الموقعة من قبل موريتانيا في مجال مكافحة الإرهاب، وخصوصاً في وقت يبدو فيه أن الولايات المتحدة تولي اهتماماً غير عادي بمنطقة الساحل وبموريتانيا تحديداً، بعد الهجمات الدامية التي سجلت مؤخراً على مواقع عسكرية موريتانية، وإسراع الأميركيين إلى إرسال مستشارين عسكريين إلى المنطقة استكمالاً لتعزيز وجودهم الأمني فيها خلال العامين المنصرمين. كما أن دخول موريتانيا إلى النادي النفطي العالمي مؤخراً، وهروع الشركات المتعددة الجنسيات إليها، سيدفع بالتأكيد نحو تحديد أكثر دقة لسياسات النظام الجديد.‏

عقيل الشيخ حسين‏

2006-10-28