ارشيف من : 2005-2008
مؤتمر البعث: الإصلاح وتحدياته

العدد 1114ـ 17 حزيران/يونيو 2005
خورشيد دلي
على الرغم من تباين الآراء والتصورات إزاء ما خرج به المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في سوريا من توصيات ومقررات، إلا أنه يمكن القول إن المؤتمر خرج بمجموعة من العناوين الإصلاحية التي يمكن أن يكون لها الدور الأكبر في تنظيم الحياة السياسية في البلاد من جديد. ولعل من أهم هذه العناوين: إصدار قانون جديد للانتخابات المحلية والتشريعية, إصدار قانون للأحزاب، تعديل قانون الطوارئ, إصدار قانون جديد للمطبوعات, تفعيل دور القضاء, إيجاد آلية ناجعة لمكافحة الفساد واستئصاله, مراجعة دستور الحزب وتعديله بما يتناسب والمتغيرات الحاصلة, حل مشكلة إحصاء عام 1962، الذي حُرم بموجبه عشرات الآلاف من الأكراد السوريين من الجنسية السورية، الاهتمام بتطوير المناطق الشرقية اقتصادياً واجتماعياً, واعتماد اقتصاد السوق شرط المواءمة بينه وبين العدالة الاجتماعية..
هذه العناوين مجتمعة تشكل معاً ما يمكن تسميته ببرنامج للإصلاح الداخلي في إطار رؤية محددة، وضمن ما يمكن تسميته بإدارة الحزب للدولة، بدلاً من قيادته للدولة والمجتمع وفقاً للمادة الثامنة من الدستور السوري التي تنص على ذلك.
إلى جانب هذه العناوين الإصلاحية، يمكن القول إن خطوة التخلص من الوجوه القديمة في قيادة الحزب وضخ القيادة الجديدة بشخصيات لها وزن كبير ومؤثر في إدارة ملفات البلاد، ولا سيما الداخلية منها، هذه الخطوة تشكل قفزة مهمة على صعيد التخلص مما سُمّي "الحرس القديم" الذين كانوا يديرون الحزب والدولة والسلطة من وراء المكاتب بعقلية الوصاية والأوامر والقرارات التي قد لا تكون خاضعة للمراقبة والمتابعة، وفي أحيان كثيرة بعقلية المصالح.. وإذا ما قرأنا تركيبة القيادة الجديدة التي تتراوح بين مجموعة من كبار ضباط الجيش والأمن: (وزير الدفاع حسن توركماني, هشام بختيار مدير الاستخبارات العامة الذي يمسك بالعديد من الملفات الداخلية الحسّاسة, محمد سعيد بختيان رئيس مكتب الأمن القومي), وممثلي السلطات التنفيذية والتشريعية: (محمد ناجي العطري رئيس الوزراء, ومحمود الأبرش رئيس مكتب مجلس الوزراء)، إلى جانب الأوساط المعروفة بإدارة السياسة الخارجية (فاروق الشرع)، والعلمية (ياسر حورية رئيس جامعة حلب).. هذه القراءة تعني أن المطلوب من القيادة الجديدة المتابعة الميدانية لكل ملفات السياسة السورية الداخلية والخارجية، عبر آلية عمل مباشرة وواضحة تخضع للمتابعة والمراجعة والجدوى من خلال علاقة عملية بين قيادة الحزب والجهات التنفيذية. وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث حقق للحزب وضعاً ميدانياً قوياً, مسلحاً بعناوين وآليات عمل من أجل تنفيذ العناوين الإصلاحية المذكورة وتحويلها إلى برنامج شامل للإصلاح. لكن السؤال بل الأسئلة التي تطرح نفسها هنا كثيرة، وهي من نوع: هل ما خرج به المؤتمر لامس سقف التوقعات والتطلعات؟ ويمكن أن يجعل سوريا في أقل الأخطار الداخلية والخارجية؟
في الواقع, منذ إعلان الرئيس السوري بشار الأسد أن المؤتمر سيشكل قفزة كبيرة في الحياة الداخلية السورية، وذلك في الكلمة التي ألقاها في مجلس الشعب عندما أعلن عن سحب القوات السورية من لبنان، رفع السوريون في الحكم والمعارضة من سقف التوقعات، إلى درجة أن البعض توقع أن يشكل هذا المؤتمر انقلاباً في الحياة السياسية السورية من خلال إنهاء هيمنة البعث على الحياة السياسية في البلاد، وهو ما لم يحصل.. بل إن البعض يرى أن المؤتمر قوّى من موقف البعث في هذا المجال، خاصة أنه أبقى على مسألة قيادة الحزب للدولة والمجتمع، وعلى قانون الطوارئ برغم التوصية بتعديله، وكذلك الإبقاء على المادة 49 التي تنص على إعدام كل من ينتسب إلى تنظيم الإخوان المسلمين. من هنا فإن الاعتقاد يتشكل بأن المؤتمر لم يأتِ بالقفزة المنتظرة، بل وضع أسساً لتحقيق مثل هذه القفزة مستقبلاً.. وربما يرى لسان حال الحزب أن ما انتهى إليه المؤتمر كان تعبيراً عن رؤية سورية خاصة للإصلاح، رؤية تنسجم والفهم السوري لمعادلة إدارة القيادة السورية للسياسة والأمن، وأن "الانقلاب السياسي" كان سيُفهم على أنه جاء بفعل الضغوط الخارجية والداخلية، وبالتالي سيُفهم الأمر برمّته على أنه الضعف، خلافاً لرسالة المؤتمر من أن النتائج كانت تعبيراً عن الحاجات الداخلية السورية.
ومع أن هذه الرؤية تبدو منطقية من حيث المنهج والتفكير والمسار الزمني، إلا أنها في نظر البعض ـ لا سيما (المعارضة) ـ تفتقر إلى الإحساس بحجم المخاطر التي تتطلب من القيادة السورية إحداث ما يمكن تسميته بـ"قطيعة" مع أسلوبها في الحكم وطريقتها في إدارة الملفات الداخلية والإقليمية والدولية، والخروج بعناوين إصلاحية ـ قد تجد التطبيق أو عدمه ـ لم يعد يتناسب مع هذه المخاطر وحدّتها، خاصة بعد احتلال العراق ومستجدات الساحة اللبنانية والتصعيد الأميركي المتواصل ضد سوريا، ومحاولات واشنطن جرّ تركيا إلى دورها القديم في الضغط على سوريا التي أصبحت فاقدة لأوراقها الإقليمية، في وقت بدأت أصوات الداخل تعلو يوماً بعد آخر مطالبة بالمشاركة الكاملة في الحياة السياسية في البلاد.
في الواقع, إذا كان المؤتمر جاء بين منزلتين: بين مفهوم البعث للإصلاح الذي يحقق استمراريته في قيادة الدولة، والإصلاح الذي يفقده هذه الاستمرارية, فإنه يمكن القول إن الفاصل بين المفهومين هو الزمن, الزمن المفتوح باتجاهين: الأول في كيفية تجسيد المؤتمر للعناوين الإصلاحية على أرض الواقع، ودفع البلاد نحو إصلاح شامل، بما يعني ذلك اللقاء مع المعارضة عند نقطة ما في طريق الإصلاح, والثاني يكمن في التصعيد الأميركي الذي يأخذ شكل جدول زمني ضد سوريا. وهنا تكمن أهمية الاتجاه الأول في قدرة القيادة السورية على إدارة العلاقة مع البيت الأبيض الأميركي، وفي عدم الانجرار إلى الدفاع عن نفسها من أبواب دمشق تحت عنوان ممانعة الإصلاح، حتى لو كان الهدف غير ذلك.. وهكذا فإن الإصلاح هو المستقبل، والعكس تماماً.