ارشيف من : 2005-2008
رفض واشنطن لروزنامة الانسحاب:موقف جدي أم تغطية على الارتباك الأميركي في العراق؟

الانتقاد/العدد 1116 ـ 1ـ تموز/يوليو 2005
في سياق المقاومة المستمرة منذ بداية الحرب، شهدت الساحة العراقية تصاعداً لافتاً في التفجيرات والعمليات العسكرية التي استهدف قسم منها جنود الاحتلال الأميركي الذين اقترب عدد القتلى في صفوفهم من عتبة (1700) قتيل، دون حساب الجرحى. وبالطبع يظل هذا العدد قليلاً جداً مقارنةً مع أعداد العراقيين ـ المدنيين والعسكريين ـ الذين يسقطون في تلك التفجيرات والعمليات. ولكن ذلك لا يفعل غير رفع منسوب الارتباك الأميركي بقدر ما يفضح دعاوى إدارة بوش التي سوّغت الحرب وخدعت الشارع الأميركي وشعوب البلدان المشاركة في التحالف بوعود من نوع تحرير العراق من الدكتاتورية وتأمين الديمقراطية والاستقرار للشعب العراقي، الذي توهم الرئيس بوش أنه سيستقبل جنوده بالأرز والشموع والزهور. ومع سقوط الوهم والاستفاقة على الواقع المرير، سحبت عدة بلدان من التحالف قواتها من العراق، وتتهيأ بلدان أخرى للقيام بإجراءات مماثلة بشكل يؤشر إلى اقتراب اللحظة التي سيجد الأميركيون أنفسهم فيها وحيدين في الرمال العراقية المتحركة أو في عش الدبابير العراقي، وفقاً للعبارة التي نطق بها مؤخراً زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر لشؤون الأمن القومي.
والسؤال هو: إلى أي مدى سيطول بقاء الأميركيين في عش الدبابير ذاك، في وقت لم يعد فيه الضغط المتصاعد على الاحتلال مقتصراً على ساحة المواجهة العسكرية في العراق، حيث ان بوادر التململ قد بدأت بالظهور بأشكال ملموسة ومؤثرة في داخل الولايات المتحدة! فمن جهة يشهد الشارع الأميركي توجهاً متصاعداً نحو رفض الحرب، وهو ما عبرت عنه استطلاعات الرأي التي كشفت أن نسبة الـ28 في المئة من الأميركيين التي كانت تؤيد فكرة الانسحاب من العراق في ديسمبر/ كانون الأول 2003، قد ارتفعت حالياً إلى 37 في المئة.. وليست هذه النتيجة أقل دلالة من نتيجة استطلاع آخر أجري الأسبوع الماضي وكشف عن أن 59 في المئة من الأميركيين لا يؤيدون طريقة الرئيس بوش في إدارة الحرب. ومن جهة ثانية تنعكس مآخذ الأميركيين على الطريقة المذكورة في العودة مرة أخرى إلى اتهام بوش بمواصلة الكذب في ما يتعلق بكل نواحي الحرب في العراق، الذي كان ابتدأه بكذبة أسلحة الدمار الشامل. ففي تصريحات أدلى بها بريجنسكي باسم الحزب الديمقراطي، وردت عبارات شددت على أن بوش ليس صريحاً مع الأميركيين، وطالبت بتفسير نزيه للحرب على العراق وبتعريف واقعي للانتصارات التي يزعم تحقيقها في حرب تتحول بشكل متزايد إلى عش دبابير يتفجر في وجه الجنود الأميركيين.. لتخلص إلى تسجيل نتيجة "مؤسفة" مفادها أن إدارة بوش لا تكلف نفسها عناء الرد على هذه المطالب.. ولم تقتصر الاعتراضات على الديمقراطيين، بل تجاوزتها إلى الجمهوريين، حيث ان بعضهم باتوا يرفعون الصوت اعتراضاً على التفاؤلية التي تقوم الإدارة الأميركية بتقديم سير الحرب من خلالها، كما في الرد الذي صدر عن بوش وورد فيه بعد الاعتراف بقسوة الحرب، بأن تقدماً قد حصل، وبأن العدو سيُهزم في النهاية.. أو كما في التصريحات التي أدلى بها مؤخراً نائب الرئيس ديك تشيني وأكد فيها أن التمرد في العراق يلفظ أنفاسه الأخيرة.
إلا أن هذه التهويلات المتفائلة لا تبدو كافية لكبح المطالب المتصاعدة بوضع جدول زمني للانسحاب العسكري الأميركي من العراق، وهو الأمر الذي رد عليه الرئيس بوش ومعاونوه بطريقة نزقة عندما أكدوا ـ خلافاً لمقتضيات الدبلوماسية الشكلية ـ أن بقاء الجيش الأميركي في العراق سيستمر ما اقتضت الحاجة.. أو بصيغة أخرى عشر سنوات أو عشرين سنة وفقاً لبعض التصريحات التي لا ينتبه أصحابها إلى مفاعيلها السلبية، في وقت يبدو أن خوض الحرب مدة سنتين وبضعة أشهر كان كافياً لإثارة بوادر الاعتراض عند ما يزيد على نصف المجتمع الأميركي.
وبالمعنى نفسه جاءت هذه التصريحات لتزيد في توسع الشرخ بين الإدارة الأميركية والحكومة العراقية التي اعتبر رئيسها إبراهيم الجعفري ـ في إشارة إلى تصوره روزنامة الانسحاب ـ أن مدة سنتين تبدو كافية لإحلال الأمن في العراق.
ومهما يكن من أمر، فإن التصريحات المتشددة التي يطلقها المسؤولون الأميركيون بخصوص إبقاء قواتهم في العراق، تأتي محاولة لمداراة الشارع ألأميركي عبر الظهور بمظهر القوي القادر على المضي قدماً في المشروع العسكري وملحقاته المتصلة بتحقيق حلم الشرق الأوسط الجديد والهيمنة على العالم، في حين أن الواقع يسير في وجهة مخالفة تماماً، ويسبب ارتباكاً واضحاً بدأت أعراضه بالظهور عبر توجهات ليس أقلها الكشف مؤخراً عن اتصالات يجريها الأميركيون، بهدف لملمة وضعهم في العراق، مع بعض الفصائل العراقية المقاتلة وذات الصلة بتنظيم القاعدة، وذلك برغم كل المقولات الأميركية عن محاربة الإرهاب!.. وإذا كانت تلك الفصائل أو بعضها، قد نفت تلك الاتصالات وهددت من يقوم بها، فإن اعتراف الأميركيين بها هو تعبير عن إحساسهم بالتورط وعن سعيهم للخروج من الورطة بأي ثمن، وإن كان من شأن هذا السعي أن يدخل علاقتهم بحلفائهم وبالشارع الأميركي في منقلبات قد تكون أشد خطراً على استراتيجيتهم المعتمدة منذ تفجيرات نيويورك وواشنطن، وبالتالي على موقع أميركا في العالم. والأكيد أن ارتباك الأميركيين في العراق ليس غير واحد من مظاهر ارتباكهم العام، في وقت لا يبدو فيه أن حساباتهم بالنسبة الى سوريا ولبنان بعد شهور على اندلاع الأزمة، متطابقة مع أوهامهم التغييرية، وهو ما عبرت عنه غوندوليزا رايس في جولتها الأخيرة على المنطقة، عندما ذكرت أن سوريا غير العراق، والعراق غير سوريا، مكتفية ـ خلافاً للعادة ـ بتوجيه انتقادات أقل حدة إلى سوريا بخصوص الاتهامات الموجهة لها بشأن تأثيرها على شؤون جيرانها. والأمر مشابه بالنسبة لإيران، حيث جاءت نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة محبطة بالنسبة الى الأميركيين الذين لا تقل إحباطاتهم عن إحباطات الإسرائيليين الناشئة عن التوترات التي تثيرها داخل المجتمع الإسرائيلي مسألة الانسحاب من غزة، التي يرى فيها بعض المراقبين إرهاصاً لانسحابات أكبر في ما يبدو أنه خطوة انكفائية ثانية تضاف، في زمن تغير المعادلات، إلى الخطوة الأولى التي تمثلت بهزيمة الاحتلال في الجنوب اللبناني في أيار/ مايو من العام 2000.
عقيل الشيخ حسين