ارشيف من : 2005-2008
القادم من رئاسة البلدية الى رئاسة الجمهورية

الانتقاد/العدد 1116 ـ 1ـ تموز/يوليو 2005
أسمر ونحيف يشبه "رجائي" والإصلاحات تشغل باله
قاسم متيرك ـ طهران
صورة من هذه؟ قال الرجل الستيني لشاب كان يقوم بتعليق صورة لأحد المرشحين للانتخابات.
"إنها لأحمدي نجاد"، أجاب الشاب، وتوقف عن العمل بعدما صدمه استفسار الرجل.. "هل هو شهيد؟".
ليس كل سكان طهران تحديداً يعرفون وجه رئيسهم الجديد قبل الاعلانات الانتخابية، برغم شدة تواضعه، فهو يتنقل بسيارته الإيرانية الصنع من دون مرافقة أو مواكبة، ويعيش في منزل لا يشبه منازل السياسيين الكبار، ويتسوق من بازار طهران.
لمن ستصوّتون؟ سؤال من المراسلين الأجانب الى الايرانيين في الطرق والحدائق بعد منتصف ليلة الاعلان عن تأهل الشيخ رفسنجاني وأحمدي نجاد الى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الثامنة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
"أحمدي نجاد من الشعب، وبالتأكيد سيخدم الشعب، لذلك سأصوت له".
فتاة ايرانية ترتدي الجينز المستورد من الخارج، وقميصاً من القطن الايراني، وحجابها يكاد يسقط عن رأسها ويكشف النصف المغطى من شعرها، قدمت نفسها على أنها اصلاحية، أعطتنا جواباً أدهشنا: "لا، أحمدي نجاد ليس متطرفاً كما يصوره الاعلام الغربي وبعض الايرانيين، أنا منحته صوتي في الدورة الأولى وسأصوت له في الدورة الثانية، لأنه صادق بكل بساطة، فهو يريد اصلاح المؤسسات، أنا أعتبره اصلاحياً".
قبل الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية لم تكن صورة أحمدي نجاد المحدودة الانتشار تلفت نظر الايرانيين، ولا حتى أكثر من ألف صحافي أجنبي وصلوا الى طهران من عواصم العالم لمراقبة الانتخابات أو تغطيتها. فصورة هذا الرجل الأسمر النحيف والملتحي العابس تشبه صور شهداء الثورة الإسلامية أو الاعلانات الجهادية أكثر من ملصقات المرشحين للانتخابات الرئاسية، وبسبب هذه الصور انتشرت الدعابات بين الايرانيين، واحدة منها تقول إن أحد المارة قرأ له سورة الفاتحة اعتقاداً منه ان الصورة تعود لأحد الشهداء.
حتى أن أحد الصحافيين شارك في حفلة التنكيت على هذا المرشح قبل أن يتأهل الى الدورة الثانية وذكر حادثة لاقت استحسان زملائه وحرضتهم على حضور المؤتمرات الصحافية لهذا المرشح.. وفي تفاصيل القصة وتلبية لدعوة وجهها أحمدي نجاد لحضور مؤتمر صحافي عادي، حضر الصحافيون ونصبوا كاميراتهم وجلسوا ينتظرون طلة المرشح، وبدلاً عنه دخل أحد الشباب الملتحين وقال: "خير ما نبدأ به مؤتمرنا الصحافي آيات من الذكر الحكيم يلقيها علينا الأخ نوري".
هذا الأسلوب الجديد في المؤتمرات الصحافية لم يعتد عليه أحد من الصحافيين الأجانب أو حتى الايرانيين، ولكنه يكشف عن التزام أحمدي نجاد بأدبيات اسلامية استغنى عنها البعض ـ مراعاة لضيق الوقت ربما ـ.
غلطة أخرى ارتكبها المراسلون الأجانب القادمون من غرب الكرة الأرضية تحديداً، تدل على قصور في معرفة المجتمع الايراني، وربما محاولة للتأثير على مزاج الناخب الايراني من خلال تسليط الضوء على مرشح دون غيره. هؤلاء المراسلون ومعهم بعض الصحافة الإيرانية، اعتقدوا ان تصوير "أحمدي نجاد" في مركز الاقتراع جنوبي طهران وهو يدلي بصوته في الدورة الأولى مجرد مضيعة للوقت، لأنه بحسب استطلاعات الرأي والتوقعات فإنه يتربع في أسفل قائمة المرشحين للانتخابات، سواء على قائمة المحافظين او الإصلاحيين، ولا أمل له بالفوز أبداً.
كان ضجيج الماكينة الانتخابية للشيخ هاشمي رفسنجاني القادم من مجلس تشخيص مصلحة النظام ومن موقعه السابق كرئيس للجمهورية، وكخبير ومحنك في السياسة مدعوم من رجال الاستثمار والإعمار وكل التجار، ويقدم نفسه منقذاً اقتصادياً يحمل في حقيبته عشرات المشاريع لا بل يستعد لافتتاحها.. كان ضجيج ماكينته الانتخابية يسبق كل الماكينات الأخرى ويتصدر المتنافسين بمسافات طويلة، ونظراً لكثرة مكاتبه وصوره التي تُظهر الشيخ في عز صباه، وليس في الثمانين من عمره (تقريباً)، انحازت التوقعات وانحرفت التحليلات ليفوز رفسنجاني قبل الانتخابات.
ما بين الدورة الأولى والثانية سبعة أيام كانت كافية لاستبدال الصورة العابسة للرجل الأسمر بأخرى باسمة حازت إعجاب الجماهير، وأسفرت عن انطباعات ايجابية لدى الشارع الذي طالما وصف أحمدي نجاد بـ"جان فلجان"، بطل رواية "البؤساء" العالمية العابس دوماً والمهموم أبداً.
سبعة أيام كانت كافية لتأكيد أن أحمدي نجاد هو مرشح "حزب الله"، ويحظى بتأييد الحرس الثوري، وهي دعاية مجانية ساهم فيها خصومه أكثر من أنصاره، وتحولت الى حقيقة لدى جمهور الثورة كافة من دون استثناء. وما بين الدورتين ظهر رئيس بلدية طهران السابق منافساً غير متوقع للشيخ رفسنجاني، ضعيفاً مقارنة بسجل الشيخ واصطفاف التيار الاصلاحي خلفه مصحوباً بدعم الشيخ كروبي.
بين الناس كان المشهد الانتخابي أكثر وضوحاً، فالمقارنة بين "الشيخ" و "نجاد" لا تقاس بالمواقف الاستراتيجية، ولا بتوجيه رسائل تطمين الى الخارج، إنما بتوفير فرص العمل لخرّيجي الجامعات، وإصلاح مؤسسات الدولة التي تعيش تحت ضغط البيروقراطية الثقيلة.
وأعمال "أحمدي نجاد" تدل عليه، فخلال رئاسته البلدية زنّر العاصمة بالأشجار ونوافير الماء، ولم يترك بقعة تراب أو حتى حفرة صغيرة إلا وزرع فيها شجرة، وغيّر لون المدينة المستريحة تحت سحابة رمادية ملوثة الى حديقة خضراء يتنفس فيها الايرانيون حرية التنزه من دون حرج بالتمدد على العشب.
ليس هذا فحسب، بل تغيرت بلدية طهران من الداخل، فحارب البيروقراطية الادارية وقلص فترة إنجاز بعض المعاملات من أسبوعين الى أسبوع أو أقل من ذلك.. واستخدم أنصاره سياسة "نجاد" الادارية والوظيفية في البلدية للرد على خصومه، فهو برغم صلاحياته الواسعة في شؤون البلدية، مارس سياسة الاعتدال والرفق بالناس، لم يتعسف في فرض وجهة نظره للفصل بين الجنسين في العمل الاداري البلدي، أو في حافلات النقل العام، أو المطاعم والحدائق، ولم يفرض لباساً موحداً.. كان دائماً يضع نفسه في موقع خدمة الناس، ليس أكثر من ذلك.
أما في المدن الأخرى، وخصوصاً في الأرياف، فإن "أحمدي نجاد" يكاد يشبه الشهيد رجائي رئيس الجمهورية الذي جاء الى الدولة من حضن الثورة وقضى في انفجار حصد في يوم واحد خيرة الكوادر.. يشبه رجائي لا في شكله، وإنما في حركات يديه ونظرته وقربه من الناس، الى جانب إخلاصه وإعلانه بلا تردد الولاء المطلق للولي الفقيه، وهو صاحب مقولة يرددها أنصاره عنه: "أنا الغبار الذي يمشي عليه خادم الشعب"، وخادم الشعب هنا هو الولي الفقيه الإمام الخامنئي.
برز "أحمدي نجاد" في مختلف أنحاء ايران كمرشح للفقراء والشهداء والحرس الثوري وحزب الله، واستقطب ما بين الدورتين جمهوراً كبيراً من الاصلاحيين بفضل خطاباته المركزة حول رؤيته لإصلاح المؤسسات والحد من البيروقراطية وجذب الاستثمارات.
مفاجأة الدورة الثانية في الانتخابات لم تكن هزيمة الشيخ رفسنجاني ولا فوز أحمدي نجاد، إنما المشاركة الكثيفة للناخبين، بما يعني ذلك من استجابة كبيرة لدعوة الإمام الخامنئي الى المشاركة استفتاءً على الثورة والجمهورية، والفوز الكاسح لـ"نجاد".
لم تكن توقعات "نجاد" دقيقة، كان مشهد اقتراع الاصلاحيين بكثافة في الدورة الثانية يقلقه الى حد كبير، لذلك عمل على حث أنصاره على الاقتراع بكثافة كبيرة تفوق الدورة الأولى لتفويت الفرصة على الاصلاحيين.. لكن الوقائع أهدت "نجاد" فوزاً كاسحاً.. لقد امتنع الاصلاحيون عن التصويت، بينما زحف جمهور المحافظين الى صناديق الاقتراع.
أيضاً عن معركة الرئاسة وأسباب الفوز الكاسح لأحمدي نجاد، وهي أسباب ساهم فيها الخصوم قبل المؤيدين له، ومنها موجة الاستياء العارمة ضد الشيخ رفسنجاني أثناء مشاركته طلبة الجامعة في لقاء شبابي تميز بالصراحة والجرأة من الطلاب، قابلها الشيخ بتوزيع الابتسامات رداً على الاستفزازات المتكررة.
كان على أحمدي نجاد حسم الجدل حول أمور كثيرة، منها العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية والملف النووي وغيرهما من القضايا الدولية التي تجنبها وعاد الى الحديث عنها قبل ساعات فقط من الدورة الثانية، كما أكد تصميمه على معالجة القضايا الداخلية بشفافية عالية.
أما في اليوم الانتخابي، وعلى عكس الدورة الأولى، فقد وجد الصحافيون عند مدخل الاقتراع حيث من المقرر أن يدلي أحمدي نجاد بصوته، علم الولايات المتحدة الأميركية على الأرض بألوانه الحمراء والزرقاء مرسوماً بالبويا.. داس عليه "نجاد" وداس معه الصحافيون أيضاً وعشرات الأنصار المرافقين له، وأدى التدافع الى وقوع البعض أرضاً، فساهم المرشح الى نجدة أحد الصحافيين الأجانب.. وهنا بدت الصورة أكثر وضوحاً.
كان الفوز الكاسح لأحمدي نجاد صدمة كبيرة للخارج قبل الداخل، فالمراهنة الخاسرة على شخص دون آخر أثبتت أن الولايات المتحدة تحديداً لا تزال بعيدة جداً عن فهم مزاجية الشعب الايراني "الذي مارس الديمقراطية في أبهى صورها عندما اقترع الشعب مباشرة واختار الرئيس، وهو ما لا يجري في الولايات المتحدة نفسها"، بحسب تعليق مراسل إحدى الصحف الغربية. ولعل اختيار رجل واضح في الخط السياسي والتوجهات ويحظى بثقة الناس، هو الذي قلب التوقعات رأساً على عقب، فذهب البعض الى وصف النتائج بأنها "زلزال ضرب ايران بدرجة 62 في المئة على مقياس الناخب الايراني". ومن الأوصاف التي ابتكرتها الصحافة الإيرانية للتعبير عن الفوز الكاسح عبارة واحدة هي "تسونامي".
ماذا بعد الانتخابات؟
ما هو برنامج الرئيس المنتخب؟
ما شكل الحكومة؟ وعلى أي معايير سيُختار المرشحون؟
كيف ستكون علاقة أحمدي نجاد بالإمام الخامنئي؟
هذه الأسئلة تحتاج الى بحث آخر،
لكن الشعب قال كلمته ورسم برنامجاً سابقاً، والقضية في إيران أكبر من لباس المرأة ومعضلة التشادور والجينز والشعر النابت من تحت الحجاب المنزلق الى نصف الرأس.. وإن كان البعض يرفض أن يرى الثورة إلا من حجابها ونسائها.
الشعب قال كلمته: نعم للإصلاح السياسي والإداري في الدولة، حتى لو كان على يد من وصفه البعض بالمتطرف والمتشدد.
كانت الانتخابات الرئاسية أكثر من كلمة.. إنها رسالة وقعها 27 مليون ناخب استجابة لدعوة الإمام الخامنئي بتحويل يوم الاقتراع الى استفتاء على الاستقلال والحرية والجمهورية الإسلامية في وجه التحديات الخارجية.
بعض الذين يرون الثورة من منظور ثقافي يقولون إن شعار الثورة الإسلامية الذي استعاده الرئيس أحمدي نجاد في بعض أدبياته يحتاج الى مراجعة.. ويقولون: نعم، حققت الثورة الاستقلال والجمهورية الإسلامية، لكنها تحتاج الى الحرية كي تستمر.. وما هي الحرية؟
جواب لا يتفق عليه حتى شخص واحد في ايران.