ارشيف من : 2005-2008
أوروبا: تململ متصاعد في ظل ممارسات واشنطن السرية والعلنية

الانتقاد/ دوليات ـ العدد 1139ـ 9/12/2005
بعد أكثر من أسبوعين على تفجر فضيحة السجون السرية التي يبدو أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تديرها في أكثر من بلد أوروبي، وتحتجز فيها بعيداً عن الالتزام بأي إطار قانوني، أعداداً غير معروفة من المسلمين المشتبه بعلاقتهم بـ"أنشطة إرهابية"، كانت الإدارة الأميركية لا تزال حتى يوم الجمعة الماضي ملتزمة بموقف عدم النفي أو التأكيد.
استيضاحات رسمية عديدة طولبت بها واشنطن خصوصاً من قبل جاك سترو وزير الخارجية البريطاني، الذي تترأس بلاده الفترة الحالية للاتحاد حتى أواخر الشهر الجاري.
استيضاحات أخرى طلبتها مؤسسات اتحادية عديدة كالمفوضية الأوروبية وبعض البلدان الأوروبية الأخرى، إضافة إلى الاهتمام الإعلامي المتزايد الذي أحدثته الفضيحة في الشارع الأوروبي.
لكن قبل مغادرتها واشنطن للقيام بجولتها الأوروبية، قطعت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليسا رايس حبل الصمت، لتعلن خلافاً للمتوقع القائم على افتراضات معقولة من نوع إبداء الاستعداد لفتح تحقيقات حول الموضوع، لتعلن جملة من اللاءات: "لا"، لم نستخدم أي مطارات أو أي مجال جوي أوروبي لنقل واستجواب مشبوهين؛ "لا"، لم نلجأ إلى التعذيب تحت أي ظروف؛ "لا"، لم ننتهك سيادة أي دولة أخرى؛ "لا"، لا ننقل معتقلين عبر المطارات الأوروبية؛ "لا"، لم نخرق القوانين الأميركية الخاصة بمعاملة الأسرى والسجناء.. لكن هذه اللاءات تبدو عارية عن المصداقية لأسباب في مقدمتها تصريح أدلى به الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية ستيفان هادلي، حيث أكد أن رايس سترد على استيضاحات الأوروبيين بشكل كامل ولكن غير مكشوف، لأن ما سيقال سيقال بشكل سري بين الحكومات!..
الواضح إذاً أن ما قيل في العلن هو غير ما قيل في السر، وأن الشفافية التي يسعى الأميركيون إلى فرضها كإجراء إصلاحي على الآخرين، هي مجرد أكذوبة ولدت في أجواء التستر على فضيحة السجون.
والواضح أيضاً أن الكلام الذي أوصلته مستشارة ألمانيا آنجيلا ميركل، وفريسكو آبينغ الناطق باسم المفوضية الأوروبية، إلى رايس قبل وصولها إلى أوروبا، والذي تركز على المطالبة بالصراحة والانفتاح والشفافية والثقة، لم يلقَ أذناً صاغية.
لكن هادلي أكد أيضاً أن هنالك الكثير من التعاون على مستويات مختلفة في الحرب على الإرهاب، وأن رايس ستركز في أوروبا على ما يشكله الإرهاب من خطر على الجميع، وعلى ضرورة إيجاد حل للمشكلة، وهو كلام يمكن اعتباره نوعاً من الاعتراف الضمني بطبيعة الحل الذي يعمل عليه الأميركيون في سجونهم السرية. وقد جاءت هذه التطورات متزامنة مع نشر تقارير جديدة حول استخدام الأجواء والمطارات الأوروبية في رحلات قامت فيها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بنقل أعداد من المشبوهين بالإرهاب نحو سجون سوفياتية سابقة في أوروبا الشرقية، أو نحو بلدان يمارس فيها التعذيب. وفي هذا الإطار ذكرت صحيفة "الغارديان" البريطانية أن أكثر من 300 طائرة تستخدمها الوكالة حطت في أوروبا لهذه الغاية، منها 96 في ألمانيا، حيث يدير الأميركيون فيها عدداً من القواعد العسكرية. لكن صحيفة "دير شبيغل" تحدثت عن 437 عملية هبوط وإقلاع في المطارات الألمانية، في حين نشرت صحيفة "ميل أون صنداي" البريطانية تقريراً تضمن صوراً فوتوغرافية لبعض تلك الطائرات في مطارات إدينبورغ وبرستويك وغلاسكو مع تواريخ التقاط تلك الصور، مشيرة الى أن إحدى تلك الطائرات قد صُورت أيضاً في مطار كابول. واختتمت الصحيفة بقولها ان جميع تلك الطائرات لم تخضع للمراقبة من قبل السلطات البريطانية، ما يوحي بوجود تواطؤ حكومي واضح على أعلى المستويات.
وفي الوقت الذي تتواصل فيه تحقيقات الأوروبيين حول المشكلة وتتصاعد فيه الضغوط على الحكومات الأوروبية التي تبين أنها "لا تعلم ما يجري فوق أرضها"، بدت كوندوليسا رايس أكثر ميلاً للاهتمام بالمسائل الاستراتيجية. فقد وقّعت في رومانيا المشتبه في إيوائها سجوناً أميركية سرية، اتفاقاً عسكرياً يسمح للأميركيين بإقامة قواعد عسكرية فيها، وباستخدام الأراضي الرومانية في عمليات إعادة انتشار القوات الأميركية في أوروبا الشرقية وآسيا. والأكيد في ظل التوتر الذي بدأ يلوح في سماء العلاقات الأطلسية بسبب مشكلة السجون والرحلات الجوية، وفي ظل الابتهاج الروماني بالاتفاقية العسكرية التي جاءت متأخرة أكثر من ستين عاماً، أن توتراً آخر قد انبثق شرقاً لجهة الجار الروسي المشتبك مع رومانيا في خلافات حدودية، والمستاء من الوجود العسكري الأميركي على أطرافه الجنوبية.
عقيل الشيخ حسين