ارشيف من : 2005-2008

من أستانة، إلى باكو وفيلنيوس:العالم يستحق حلولاً حكيمة!

من أستانة، إلى باكو وفيلنيوس:العالم يستحق حلولاً حكيمة!

في العاصمة الكازاخية أستانة، تحدث نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني كثيراً عن بحار النفط والغاز في آسيا الوسطى ومنطقة بحر قزوين. وعن ضرورة وصول هاتين المادتين الاستراتيجيتين بسرعة وبكميات كبيرة وبأسعار معقولة إلى أوروبا والغرب. كلام يثير إلى حد ما قلق الصين النهمة بشكل يتجاوز الحدود إلى كل ما من شأنه أن تتصاعد منه الحرارة الضرورية لإذابة المعادن والبلاستيك وتحريك المزيد والمزيد من محركات الصناعة والنقل. لكنه يظل قلقاً قابلاً للاحتواء لأن خط الأنابيب القادم من شرق كازاخستان قد بدأ فعلاً بإفراغ حمولته الثمينة فيما وراء سور الصين العظيم.‏

لكن كلام تشيني نفسه أثار عند الروس نوعاً من الغضب الذي أثار بدوره ما يشبه التحفز لامتشاق السلاح. فروسيا تهتم بشكل فوق عادي بطرق النفط في المجال السوفياتي السابق، وهي تمارس عليه فعلاً نوعاً من شبه الاحتكار، ولا يرضيها أن تستبعد من أية صفقة مع آسيا الوسطى لا تحصل منها على نصيب الجار القوي والقادر حتى على المشاكسة والمعاكسة مهما كان الثمن. صحيفة كوميرسانت الروسية عرضت على صفحتها الأولى صورة لديك تشيني ناطقة بالتهديد وهو يطلق من فيلينيوس تهديدات مباشرة إلى روسيا التي اتهمها، في جملة ما اتهمها به، بأنها تستخدم الغاز كوسيلة للضغط وكرافعة سياسية، وتلجأ إلى التخويف والابتزاز، قبل أن يضعها أمام خيار واحد وحيد هو العودة إلى الإصلاحات الديموقراطية، لأن من شأن هذه الإصلاحات أن تؤمن النجاح للشعب الروسي والاحترام من قبل الأمم الأخرى. بعض المراقبين يعتقدون أن الرئيس بوش قد كلف ديك تشيني بأن يدلي بهذه التصريحات بهدف دفع الروس إلى اتخاذ مبادرات ديموقراطية قبل حلول موعد الرئاسة الروسية الدورية لمجموعة الدول الصناعية الثماني التي ستعقد قمتها المقبلة في سان بيترسبورغ في تموز/ يوليو القادم. كما يعتقد مراقبون آخرون أن الموقف الأميركي يعكس الاستياء من الموقف الروسي الرافض لمشاريع الضغط على إيران بالعقوبات الاقتصادية أو بالعمل العسكري.‏

وكتبت الصحيفة تحت الصورة المذكورة عبارة "العدو على أبوابنا". فالحقيقة أن ممثلي خمسة وعشرين بلداً أوروبياً، بينهم خافيير سولانا الممثل الأعلى لخارجية الاتحاد الأوروبي، كانوا ينتظرون ديك تشيني في فيلنيوس التي شقت عصا الطاعة مع أخواتها الكثيرات قبل خمسة عشر عاماً، ليتحدثوا معه عن الحوار مع روسيا من قبل الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي ودول البحر الأسود، بما جاء ليحقق ما كان الرئيس بوتين قد تنبأ به، قبل أيام عندما قال "إنهم يحاولون إعاقتنا في الشمال، أو في الجنوب أو في الغرب". كما تأتي كتأكيد إضافي لهذا التنبؤ مقولة ديك تشيني التي تحدث فيها، بشكل مثير للحنق، عن حل لمشكلات البحر الأسود على طريقة بحر البلطيق، حل يجعل أوكرانيا وجورجيا وبلغاريا ورومانيا ومولدافيا، تسير بشكل نهائي فوق السكة التي سارت عليها بولندة وجمهوريات البلطيق الثلاث. وحدها بيلاروسيا التي يصفها الغربيون بأنها آخر ديكتاتورية في أوروبا لا يتحلب لعابها كالأخريات أمام إغراء الانضمام إلى الأطلسي والاتحاد الأوروبي، ما جعل ديك تشيني يشملها، مع روسيا، بعدد من الشتائم المعهودة.‏

الرد الروسي جاء شبيها بالصمت الذي يحسب له ألف حساب: ديك تشيني قال كلاماً غير مفهوم. لم نسمع جيداً ما قاله ديك تشيني. ودفعة واحدة كرت سبحة الإعلام الروسي في الحديث عن العودة إلى الحرب الباردة. فقد كتبت بعض الصحف الروسية أن كلام تشيني هو الأشد عنفاً منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. وفي غمار الردود تهديدات من العيار الثقيل. حرمان الشركات الأميركية من المشاركة في استثمار حقول الغاز الروسية في شتوكمان، وحرمان شركة بوينغ الأميركية من عقد بقيمة ثلاثة مليارات دولار...‏

بين أستانة وفيلنيوس، في نقطة وسط كانت باكو، عاصمة آذربيجان، مسرحاً لأنشطة لا تقل أهمية وخطورة. فقد استقبلت باكو، في هذه الأثناء قمة منظمة التعاون الاقتصادي الإقليمية التي تضم كلاً من إيران وتركيا وباكستان وأفغانستان، إضافة إلى آذربيجان وبلدان آسيا الوسطى الخمسة الأعضاء سابقاً في الاتحاد السوفياتي. بلدان ذات سياسات مختلفة تجمعها، وفقاً لمعايير الجغرافيا السياسية الراهنة، مصالح اقتصادية تكاملية حول النفط والبنى التحتية والطرق، لكنها تجد نفسها مضطرة بحكم الأجواء السياسية الملتهبة في المنطقة إلى إعطاء هذه الناحية ما تستحقه من اهتمام. لذا، وإلى جانب الاهتمام بمستقبل التعاون الاقتصادي بين عشرة بلدان كلها إسلامية، وتمتلك قدرات مادية وتقنية وبشرية ضخمة، كان الحدث الأبرز متمثلاً بالأجواء المشحونة التي تثيرها التهديدات الغربية المتصاعدة لإيران بخصوص ملفها النووي السلمي. تهديدات رد عليها الرئيس المضيف إلهام علييف بالتشديد على ضرورة الأمن والاستقرار في المنطقة، في حين جدد الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد عزم إيران على المضي قدماً في سياستها النووية السلمية. وهكذا يعيش العالم، بين أستانة وفيلنيوس وباكو، هواجس النفط والغاز والنووي. هواجس كانت قوى الاستكبار تحلها في الماضي بأيسر السبل. أما اليوم، وبسبب اليقظة والجدية الجديدة، فقد بات اللجوء إلى الأساليب القديمة في السلب والنهب يثير حروباً باردة باتت قوى الاستكبار تتردد في تحويلها إلى حروب ساخنة خوفاً من ردود لم تعهد ما يشبهها في الحروب السابقة مع بلدان العالم العربي والإسلامي. لذا فإن من الأهمية بمكان للرئيس بوش أن يصغي إلى صوت الحكمة، لأن جميع المشكلات مهما عظمت تظل قابلة للحل بصوت الحكمة.‏

ع.ح‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1161 ـ 12 أيار/مايو 2006‏

2006-10-28