ارشيف من : 2005-2008

أحداث البصرة الأخيرة.. والمأزق البريطاني في العراق

أحداث البصرة الأخيرة.. والمأزق البريطاني في العراق

بغداد ـ "الانتقاد"‏

بعد أربعة أيام فقط على إسقاط المروحية العسكرية البريطانية في محافظة البصرة (550 كم جنوبي بغداد)، أعلن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير أنه سيعلن في غضون أسابيع قلائل عن تخفيض جديد لعدد القوات البريطانية المنتشرة في العراق ضمن قوات الاحتلال، قائلا: "أعتقد انه سيكون لدينا ما نقوله في هذا الموضوع في الأسابيع المقبلة".‏

وقد يكون مبررا ـ إن لم يكن مطلوبا ـ من بلير أن يصدر تصريحا كهذا، لأن الحادث المشار إليه يعد الأول من نوعه الذي تتعرض له القوات البريطانية في العراق خلال الأعوام الثلاثة الماضية.‏

والتصريح يحمل أكثر من إشارة أو رسالة، أبرزها وأهمها ان القوات البريطانية تعيش مأزقا في العراق بدأت تتجلى أبعاده قبل عدة شهور، حينما أقدمت تلك القوات على تدمير مركز للشرطة العراقية في البصرة لتحرير اثنين من البريطانيين كانت قد احتجزتهما قوات الشرطة العراقية بعد الاشتباه بهما، عندما كانا يرتديان ملابس عربية (الدشداشة والكوفية والعقال)، وتبين فيما بعد أنهما يعملان في جهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني (أم.آي.6 M.I.6). وقد أدى تدمير مركز الشرطة وإطلاق سراح البريطانيين إلى تأزم الأمور في المحافظة وبلوغها مستويات سياسية خطيرة دفعت مراكز القرار في لندن وبغداد إلى التدخل واحتواء الأمور.‏

ومع أن لندن ـ بمساعدة واشنطن ـ شنت حملة إعلامية وسياسية على طهران متهمة إياها بالتدخل في شؤون العراق الداخلية من خلال تزويد بعض الجماعات بالمال والسلاح لإثارة الاضطرابات والفوضى، إلا أن تلك الحملة لم تنجح في تحقيق الأهداف المرجوة من ورائها. وقد جاءت الأحداث الأخيرة لتضيف بعدا آخر على طبيعة العلاقة الملتبسة والشائكة بين القوات البريطانية في البصرة من جهة والإدارة المدنية والأحزاب والقوى السياسية والجماهير من جهة أخرى.‏

فسقوط طائرة الهيلكوبتر الذي أدى إلى مقتل أفراد طاقمها الخمسة بينهم امرأة برتبة ملازم في سلاح الجو البريطاني تدعى سارة ليفيهام، والتي تعد أول امرأة بريطانية تُقتل في العراق منذ بداية الحرب في العشرين من آذار/ مارس من عام 2003، تبعته تداعيات أدت إلى استشهاد عدد من المدنيين اختلفت الروايات في الرقم الحقيقي لهم وفي طبيعة انتمائهم ودورهم في الأحداث. ولكن ما هو مؤكد هو أنهم قُتلوا بنيران القوات البريطانية.‏

وإذا كانت عملية سقوط الطائرة قد جرت بفعل صاروخ أرض ـ جو كما أشارت التحقيقات الأولية لفريق خبراء أرسل على عجل من لندن، التي أوضحت أن مثل هذا الصاروخ يمتاز بسرعة انطلاق كبيرة، إضافة إلى دقة الإصابة وإحراق الهدف عند اصطدامه به، فإنه من الصعب توجيه أصابع الاتهام إلى جهة بعينها ما لم تعلن هي بنفسها مسؤوليتها عن ذلك.‏

وبينما حمل الجنرال روب فراي نائب قائد القوات متعددة الجنسية في العراق ما أسماه "الميليشيات المتطرفة" ـ في إشارة إلى جيش المهدي ومنظمة بدر ـ مسؤولية الأحداث الأخيرة في البصرة، نفى أحد قياديي جيش المهدي التقارير البريطانية التي تحدثت عن تورط عناصره في إسقاط المروحية البريطانية.‏

وفي محاولة لخلط الأوراق ذكر مسؤول عسكري بريطاني لم يكشف عن اسمه في حوار أجرته معه صحيفة "السياسة" الكويتية، معلومات استخبارية عن تمويل إيراني كبير لجيش المهدي التابع للسيد مقتدى الصدر تمثل بمئات الأطنان من الأسلحة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة، فضلا عن التدريب والدعم اللوجستي.‏

وتتحدث أوساط سياسية وعسكرية مختلفة عن فرضيتين: الاولى ان القوات البريطانية هي التي افتعلت الأحداث الأخيرة بالتنسيق مع الأميركيين للضغط على طرفين، الأول طهران لإجبارها على تقديم تنازلات في ما يتعلق ببرنامجها النووي المطروح حاليا على طاولة مجلس الأمن الدولي.. ولعل التفجيرات التي حدثت قبل أيام قلائل في مدينة كرمنشاه الإيرانية (شمال غرب) ربما تكون رسالة بهذا الاتجاه كالرسائل السابقة المشابهة لها في إقليم الأهواز ذي الأغلبية العربية جنوبي ايران. والطرف الآخر هو جيش المهدي ـ او بإطار أوسع التيار الصدري ـ الذي ما زالت واشنطن ومعها لندن تعتقدان انه يمكن ان يكون عامل قلق لهما، خصوصا اذا لم تنجح الحكومة العراقية المرتقبة في التعامل معه بطريقة تؤدي الى تحجيمه واحتوائه.‏

اما الفرضية الثانية التي تتحدث عنها الأوساط السياسية والعسكرية المشار اليها، فهي ان أطرافا مسلحة من التيارات الشيعية ـ جيش المهدي او غيره ـ هي التي قامت بإسقاط المروحية البريطانية، لكنها رأت انه من غير المناسب إعلان ذلك صراحةً، مع التيقن بأن البريطانيين فهموا مغزى الرسالة الموجهة اليهم، ومفادها "انه عليكم اعادة النظر في وجودكم في العراق، والإسراع بالمغادرة".. وتصريح توني بلير يمكن ان يفهم على انه رد على هذه الرسالة، علما بأن الهزيمة التي مُني بها حزب العمال البريطاني بزعامة بلير نفسه في الانتخابات الاخيرة والضغوط عليه للتنحي من منصبه، لا بد من ان تدفعه الى عمل شيء ما لإنقاذ مستقبله السياسي، حتى لو تطلب ذلك الإطاحة ببعض الرؤوس السياسية الكبيرة مثل وزير خارجيته جاك سترو ووزير دفاعه ديفيد براون.‏

ويدرك بلير وكبار صناع القرار السياسي في لندن ان عدم المحافظة على حياة الجنود البريطانيين الثمانية آلاف الموجودين في العراق، ربما يدفع الوضع السياسي هناك الى منزلقات خطيرة للغاية.‏

وبصرف النظر عن الأسباب والخلفيات والدوافع، فإن الجانب البريطاني سارع الى إعادة المياه الى مجاريها، كما أشار الى ذلك محافظ البصرة محمد مصباح الوائلي، حينما قام القنصل البريطاني هناك بتقديم تعازيه الى ذوي ضحايا المواجهات المسلحة الأخيرة، وتعهد بتقديم الدعم واستمرار تدريب قوات الشرطة العراقية وتشخيص العناصر المسيئة منها ومواصلة مشاريع الإعمار.‏

ويبدو ان لندن لم تكسب كثيرا من خلال برقية التعزية التي بعث بها الرئيس العراقي جلال الطالباني الى رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بمقتل طاقم المروحية البريطانية، والتي عزى فيها بلير نيابة عن الشعب العراقي، لأنها قوبلت باستياء واستهجان ورفض من قبل أكثر من جهة سياسية عراقية، الى جانب حيز كبير من الشارع العراقي الذي ربما استاء من برقية رئيسه بقدر ما ابتهج بإسقاط المروحية.. وهذا الأمر له دلالاته ومعانيه المهمة والخطيرة.‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1161 ـ 12 أيار/مايو 2006‏

2006-10-28