ارشيف من : 2005-2008

استعادة لخطاب حضاري نسيه الغرب/ أحمدي نجاد لبوش: ألا تريد أن تلتحق بقافلة الشعوب؟

استعادة لخطاب حضاري نسيه الغرب/ أحمدي نجاد لبوش: ألا تريد أن تلتحق بقافلة الشعوب؟

طهران ـ محمد محسن‏

"ثم جاء أحمدي نجاد فملأ الدنيا وشغل الناس" وهذه المرة كانت المفاجأة التي لم يحسب أحد حسابها بعد أن أعلن الرئيس الايراني قبل أيام ان لا حاجة للمباحثات مع اميركا، وان لا تراجع عن الانجازات النووية السلمية، فجاءت الرسالة ـ البيان التاريخي الى الرئيس الاميركي كصرخة، أو ربما صفعة على وجه من يريد كتابة التاريخ بدم الشعوب ونفطها ومائها وكراماتها.‏

رسالة من العيار الثقيل تفتح الملفات: لا مجاملات ولا مناورات بل أسئلة بسيطة أوردها احمدي نجاد "المعلم" على لسان طلابه فجاءت "ضربة معلم".‏

سكت المرسل اليه ولم ينبس ببنت شفة، والذهول المهين سيطر على عاصمة الشيطان الأكبر.‏

في 17 صفحة من "القطع الكبير" جاءت الرسالة فاجتاحت الصلف الاميركي المهدد المتوعد بمجلس الأمن.‏

الإرباك الأميركي خيم على الاجواء وزادت تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية غونداليزا رايس طينه بلّة عندما أعلنت أن الرسالة لم تحتوِ على اي اقتراح ـ صفقة مثلا ـ "لإذلال إيران نوويا". الوزيرة الأميركية لم تعثر على ما يمكن مقايضته في الرسالة. لا اثر للمفاوضات على الملف النووي ولا تمريرات تحت الطاولة, بل كلام حول الشعوب والعدالة والتاريخ الذي لا يرحم الظالمين، ودعوات لمراجعة الحساب قبل أن يتولى المظلومون تصفية الحساب شخصيا يوم لا ينفع الندم.‏

يعلن نجاد بوضوح ما يؤمن به الشارع العالمي المتظاهر يوميا ضد بوش، وما يمثل بأن الليبرالية قد سقطت، وان الرعونة التي ينتهجها الاميركي لا تنسجم مع ادعاء الانتساب للسيد المسيح، ولا تمت بصلة لحقوق الإنسان وحريته... ويذكّر عدوه اللدود بأننا جميعا سنرحل، وسيحكم الله والتاريخ والشعوب، شعبنا وشعبكم والبشرية جمعاء لما قدمناه لهم.‏

يمر احمدي نجاد باختصار على مآسي المحرومين، والتي تشاء الصدف ان اكثر مصائبهم من اميركا واسرائيلها المدللة. ويذكّر بوش بالوعود الإلهية التي يعتقد بها أتباع الشرائع ليسأله هل تنسجم حروبك الوهمية المتواصلة مع العدل والمحبة والسلام المسيحي؟‏

كانت المفاجأة كبيرة عند الإعلان عن تسليم الرسالة عبر السفارة السويسرية، وجاءت التسريبات الأميركية عن اقتراحات ما للخروج من الملف النووي كمحاولة يائسة لتسطيح البعد الفكري والحضاري والانساني للرسالة الحدث.‏

التزمت طهران على لسان رئيس جمهوريتها بعدم إفشاء مضمونها بناءً على "الآداب الإسلامية" كما قال نجاد، مضيفا "اننا ننتظر رد المرسل اليه". ولكن هذا المرسل اليه وخلافا للآداب العامة الإسلامية والمسيحية لاذ بالصمت وترك الناطق باسم بيته الابيض يصرح بأننا لن نرد! فكان كما حللت صحيفة الغارديان بأن الرد الهزيل هو علامة على الضعف الأميركي.‏

أعادت الرسالة إلى الأذهان بقوة رسالة الإمام الخميني (قده) إلى آخر رئيس للاتحاد السوفياتي غورباتشوف، الذي اعلن له فيها بوضوح سقوط الشيوعية وانتقالها إلى المتاحف، ونصحه فيها بعدم الهروب منها إلى أحضان الليبرالية الغربية، بل أن يبحث عن الحقائق الإلهية كطريق لخلاص الانسان وسعادته. يومها استمع غورباتشوف باهتمام بالغ للرسالة وظهر الخجل والارباك على وجهه عدة مرات، ومرت السنوات ليقول ليتني عملت بنصائح الإمام الخميني.‏

وأعادت رسالة احمدي نجاد ايضا الى الذاكرة الكلمة التاريخية للإمام القائد الخامنئي في مجلس الأمن قبل عشرين عاما حين كان رئيسا لجمهورية إيران الاسلامية، ووقف خطيبا محاضرا ومدافعا عن الشعوب والقيم ومنددا بالظلم وداعيا الى سلام العدل والمعنويات والمحبة.‏

يومها أنصت مندوبو كل دول العالم للخطاب ذي المعالم النبوية بانبهار، فيما غادر اثنان فقط القاعة: مندوبا أميركا و"إسرائيل".‏

هذا النوع من الرسائل له مكانة مضيئة في تاريخنا الإسلامي، كما يقول احسان كريمخاني المسؤول السياسي للاتحاد الاسلامي للطلاب، مشيراً إلى أن رسالة الرئيس تنذر بسقوط الحكومات القائمة على الظلم، وتبشر الأحرار بالفرج القريب.‏

الرسالة أعدّها نجاد بالتشاور مع اركان النظام الاسلامي، كما قال نائب طهران في مجلس الشورى الاسلامي في تصريح اشاد بروح الابتكار والشجاعة والاقتدار الذي يتحلى به خطاب احمدي نجاد، مضيفا ان الرسالة يمكنها أن تترك أثرا في أوساط حكام أميركا إذا ما تحلوا بحد أدنى من العقل والمنطق.‏

بغض النظر عن الاثر الذي يصعب تصوره عند هؤلاء فإن الرسالة قد فعلت فعلها في الاوساط العالمية التي تلقفتها في صدر صفحات جرائدها وأول عناوين نشراتها.‏

المثقفون والسياسيون والمحللون الاجتماعيون وأصحاب الفكر والثقافة شرعوا ومنذ انتشار الرسالة في التعليق والدراسة والتحليل، مع إعجاب وتقدير واعتراف بروح يصعب حصرها وتعريفها في السياسة وعالمها الموبوء. الأهم من هذا كله كان رد الشارع والناس العاديين، كما يحلو للمثقفين ان ينعتوهم، يتحدث احد مسؤولي قناة الكوثر الفضائية الايرانية الناطقة بالعربية عن مئات بل الاف الرسائل التي تلقتها الكوثر من انحاء المعمورة، وخاصة من الدول العربية من مواطنين أرسلوا كلماتهم واقتراحاتهم وعواطفهم لاحمدي نجاد بعد ان فتحت هذه الفضائية مجالا للتواصل الانترنتي مع الرئيس الايراني، وسألت المشاهدين ماذا تودون ان تقولوا للرئيس الايراني؟‏

وجاءت النتائج مذهلة وأكثر بكثير مما كان متوقعا. أحمدي نجاد قال عن رسالته انها تعبير عما يجول في وجدان الناس، وأغلب الشعوب التي يبدو انها ردت التحية له بالحرارة نفسها وعلى الخط ذاته.‏

في رسالة الإمام الخميني الى غورباتشوف أثنى الإمام على شجاعة الزعيم السوفياتي الذي أعاد النظر في الإيديولوجيا الماركسية وقام بمصالحة مع الدين والشعوب وبمراجعة لأسلافه. اللافت في رسالة نجاد ـ طبعا بدون الدخول بمقارنة ـ انه لم يجد أي صفة عند بوش تستحق الثناء او التقدير فاكتفى كما قال الاستاذ الجامعي الايراني امير محبيان "بإتمام الحجة" وقال كلمته ومشى.‏

هذه الرساله هي أول الغيث، فالرئيس كان قد وعد بأنه سيبعث رسائله إلى زعماء الكثير من الدول المهمة. وعبارة الدول المهمة كما يعبر مدير المكتب الاعلامي للرئيس لا تنحصر بالدول الغربية طبعا.‏

فتحت الرسالة كوة في الافق الحالي وعبرت بمضمونها الديني والحضاري والسياسي عن مشروع مختلف وأدبيات كادت تندثر وسط غبار الاجتياحات والغارات والخفة والصلف الشائع.‏

الأيام القادمة تبدو مشحونة بالتغييرات الكبرى التي توحد الشعوب وتعزل من يحاول الغاء كل من ليس معه ووصمه بالإرهاب. يستشعر القارئ للرسالة بمزيج من الشفقة والتحذير عندما يسأل نجاد رئيس اميركا "ألا تريد أن تلتحق بقافلة الشعوب"؟‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1161 ـ 12 أيار/مايو 2006‏

2006-10-28