ارشيف من : 2005-2008

العدد السنوي // عام صعب على الرئيس بوش والآتي أصعب!

العدد السنوي // عام صعب على الرئيس بوش والآتي أصعب!

بداية العام 2005 أعطت الانطباع موقّتاً بتعزز وضع الرئيس بوش في حكم أميركا بعد انتخابه لولاية ثانية. لذا كان خطاب "حال الاتحاد" مناسبة لتجديد الكلام عن الحرب العالمية التي أطلقتها أميركا التزاماً بمسؤولياتها في مكافحة "الإرهاب ونشر الديموقراطية". لكن الأيام والأسابيع اللاحقة لم تلبث أن بدأت بالتكشف عن مشكلات وتراجعات وفضائح دفعت المراقبين نحو التساؤل الجدي حول ما إذا كان الرئيس بوش سيتمكن من إكمال ولايته الثانية.‏

لقد استهل بوش ولايته الثانية بجولة أوروبية عادت فيها المياه إلى مجاريها بين ضفتي الأطلسي بعد التباعد الذي أصابها بسبب الحرب على العراق، وأصبح بمقدور الرئيس بوش أن يطلق تصريحاً أكد فيه أن أميركا وأوروبا هما ركيزتا العالم الحر. لكن صفو عودة العلاقات عكرته سلسلة من الإقالات والإصلاحات في أجهزة الحكم والأمن الأميركية ترافقت، بالإضافة إلى تكشف أكذوبة أسلحة الدمار الشامل العراقية، مع بروز فضائح تعذيب السجناء في المعتقلات الأميركية في أفغانستان والعراق وغوانتانامو، وتوجيه أصابع الإتهام بالمسؤولية إلى كبار المسؤولين الأميركيين بمن فيهم الرئيس بوش. وفي هذا الإطار، وجه مجلس الكنائس العالمي اتهاماً للإدارة الأميركية بانتهاك حقوق الإنسان، كما تحدث تقرير لـ"هيومان رايتس ووتش" عن حصيلة كارثية للولايات المتحدة في المجال نفسه، وهو الأمر الذي أعقبه صدور تقرير أميركي رسمي يتهم دولاً كالصين وكوريا الشمالية بانتهاك تلك الحقوق. وقد اعترف البنتاغون بإحدى وسبعين حالة تعذيب في المعتقلات المذكورة. كما كان على الأميركيين أن يواجهوا لاحقاً فضيحة تدنيس المصاحف في المعتقلات الأميركية وغيرها من أشكال الإساءة للمقدسات الإسلامية الأساسية.‏

وفي حين كانت الفضائح وأشكال استغلال السلطة تعصف بإدارة الرئيس بوش بشكل بدأ يدور فيه الحديث عن احتمالات عدم قدرته على إكمال ولايته الثانية، اختار هذا الأخير مواصلة القفز في الفراغ برغم تحول الحرب على العراق إلى مأزق أميركي. فبدأ يوزع التهم والتهديدات على إيران ملوحاً بحق واشنطن باستخدام القوة ضدها بسبب مشروعها النووي، ثم على سوريا التي كانت بصدد توقيع شراء صفقة صواريخ أرض جو من روسيا التي أبرمت تلك الصفقة برغم التحذيرات ومظاهر الحنق الأميركية، وهو الحنق الذي تضاعف في وقت لاحق من العام مع إجراء مناورات مشتركة ضخمة نفذتها القوات الروسية والصينية في منطقة الشرق الأقصى.‏

ولم تقف الضغوط الأميركية عند هذه الحدود، بل تجاوزتها إلى ممارسة الضغوط على البلدان المتحالفة معها في المنطقة العربية ـ الإسلامية بهدف إخضاعها للمزيد من الإملاءات المندرجة تحت شعارات الإصلاح والزعزعة البناءة. كما اشتملت الضغوط على مناطق أخرى امتدت من الصين وكوريا الشمالية إلى روسيا وحتى إلى أوروبا التي طالبها الرئيس بوش، برغم تحسن العلاقات، بالمزيد من التعاون من أجل مكافحة الإرهاب والتطرف وأسلحة الدمار الشامل، ومن أجل نشر الديموقراطية.‏

أما في الداخل الأميركي، فقد اعتمد الرئيس بوش استراتيجية جديدة لمكافحة التجسس واتخذ، بالتزامن مع طوني بلير، إجراءات وسن قوانين جديدة لمكافحة الإرهاب، في حين كان وزير حربه دونالد رامسفيلد يعمل على إحياء مشروع مكلف لتزويد الولايات المتحدة بجيل جديد من الأسنان النووية على شكل قنابل تكتيكية أو مقذوفات قادرة على اختراق التحصينات، وكل ذلك على وقع الاحتفالات بإجراء أول تجربة ذرية نفذها الأميركيون قبل أيام من إلقاء قنابلهم الذرية على المدن اليابانية.‏

ولتجديد الانطباع في الشارع الأميركي بأن الولايات المتحدة تخضع لتهديدات حربية من الخارج، ولتبرير الاستمرار في الحرب المكلفة بشرياً ومعنوياً ومالياً على العراق، تم وضع العديد من الخطط التي نفذت على شكل تدريبات للدفاع داخل المدن الأميركية، وذلك بعد صدور تقرير أميركي أكد أن عدد الهجمات الإرهابية قد تضاعف ثلاث مرات برغم إجراءات المكافحة. وفي ظل الارتباك الأميركي الناشئ عن تصاعد أعمال المقاومة في أفغانستان واقترانها في العراق بحالة من العنف الدموي الواسع النطاق والمتعدد الاتجاهات، في وقت كان من المفترض فيه أن يكون العراق قد قطع، وفقاً للمزاعم الأميركية، أشواطاً كبيرة نحو الأمن والديموقراطية والرخاء الاقتصادي، بدأت كلمة الانسحاب من العراق بالظهور على المستويين الرسمي والشعبي في الولايات المتحدة. وكان من الواضح، بعد الانسحاب الإسباني الذي تلته سلسلة من انسحابات الحلفاء، ومنهم الإيطاليون بعد مقتل أحد موظفيهم الأمنيين على يد جنود أميركيين في بغداد، وبرغم تشديد المسؤولين الأميركيين على رفضهم لفكرة الالتزام بروزنامة للانسحاب، الا أن الفكرة قد أصبحت ناضجة بما يكفي للإعلان لاحقاً عن سحب دفعة أولى من سبعة آلاف جندي بحلول ربيع العام 2006. وبالطبع، حاولت الإدارة الأميركية إظهار الخطوة وكأنها مجرد عمل ميداني مرتبط بتقدم التدخل العسكري نحو تحقيق أهدافه، لكن تخبط المغامرة الأميركية في المستنقع العراقي كان قد بدأ بإحياء أعراض فييتنام في وعي الشارع الأميركي، وهو الأمر الذي عبر عنه السناتور الديموقراطي تشاك هاجيل عندما صرح بأن الحرب في العراق هي ورطة تتجه أكثر فأكثر نحو صورة مشابهة للهزيمة الأميركية في فييتنام.‏

وفي حين كان زبيغنيو بريجنسكي، أحد أبرز مهندسي السياسات الأميركية، يتحدث عن القيادة الكارثية للرئيس بوش، بالتوازي مع حملات مايكل مور الموجعة، ومع تحركات أمهات الجنود الأميركيين الذين تأكلهم حرب العراق، تنامت في العالم وفي الداخل الأميركي مظاهر الرفض المتزايد لمشاريع التوسع الأميركي. وبدأت بالتشكل منظمات شعبية قادت العديد من التظاهرات الكبرى تنديداً بالحرب، وبسياسات الاستعلاء والتعنت والأنانية المعتمدة أميركياً في جميع الملفات الساخنة تجاه مشكلات المناخ والفقر والإيدز والتجارة العالمية وأخيراً وليس آخراً تجاه المنظمة الدولية.‏

وفي هذا الإطار رفضت الإدارة الأميركية أكثر من مشروع لإصلاح الأمم المتحدة، ودخل الرئيس بوش في مواجهة مكشوفة مع الأمين العام للمنظمة، كوفي آنان، انتهت بتطويع المنظمة، وبما أسماه المراقبون بالاحتلال الأميركي للمنظمات الدولية مع فرض بول وولفوويتز مديراً للبنك الدولي وجون بولتون سفيراً لبلاده في نيويورك، إضافة إلى المساعي الأميركية الحثيثة لإقالة المسؤول عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، محمد البرادعي، لامتناعه عن تنفيذ رغبات بوش ذات الصلة بالملف النووي الإيراني. وإذا كانت المنظمة الدولية قد تحولت إلى أداة طيعة في يد الإدارة الأميركية، لا سيما في الملف اللبناني السوري، فإن هذا "المكسب" قد تحقق، دون أن يؤتي ثماره أميركياً، على حساب سمعة المنظمة الدولية وورقة التين الأخيرة التي كانت تخفي سوء ما يسمى بالشرعية الدولية من حرب كوريا إلى فضائح العراق المالية، مروراً بقانا الجليل اللبنانية والبوسنة وكوسوفو ورواندا والكونغو والقرارات المتروكة حبراً على أوراق المشكلة الفلسطينية.‏

كما سجل العام 2005 مزيداً من هزائم "اليانكي" في أميركا اللاتينية من خلال تصاعد حالة العداء للولايات المتحدة في فنزويلا والبرازيل والأرجنتين وأوروغواي وبوليفيا وغيرها، وهي الحالة التي عبرت عن نفسها في تحول بوش ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس إلى مثار للسخرية في قمة الأميركتين التي سجلت فشلاً جديداً للمحاولات الأميركية الهادفة إلى إعادة تحويل نصف القارة الجنوبي إلى حديقة خلفية.‏

كل هذه الانتكاسات التي منيت بها سياسات العم سام في الخارج الأميركي والتي ترافقت مع إقرار المزيد من التشريعات الضريبية لتغطية تكاليف الحرب، لعبت دورها في تنامي حركة الاعتراض على الحرب، وفي هبوط شعبية الرئيس بوش إلى مستويات لم يعرفها أي رئيس سابق. وقد دفع ذلك بالرئيس بوش إلى محاولة العوم عبر توسل كل ما بحوزة مستشاريه من أفكار بهلوانية وألاعيب من نوع الاستعارة الجمبازية لـ"انتصار" ريغان على الشيوعية، وعقد المقارنات بين ذلك وبين توهمات بوش في حربه على الإسلام تحت غطاء مكافحة الإرهاب.‏

وفي هذه الأثناء تعرض الرئيس بوش وإدارته للطمة غير منتظرة جاءت على شكل الأعاصير الطبيعية التي اجتاحت الولايات الجنوبية وحولتها إلى عالم ثالث على حدود تكساس لتظهر تقصير البيت الأبيض وتهاونه المقصود بمصالح ومصائر الأميركيين السود الذين يشكلون أغلبية السكان في تلك الولايات. وإذا كانت هذه الفضيحة قد أحيت مشاعر وممارسات التمييز العنصري في أذهان السود، الأمر الذي يعيد فتح ملف له ما قبله وما بعده في تاريخ أميركا، فإنها قد أسهمت، في الإطار المباشر، بالمزيد من تراجع شعبية الرئيس بوش وقدرته على الحكم لا سيما في ظل تواتر فضائح جديدة من نوع التنصت غير القانوني على مكالمات الأميركيين، أو إخفاقات جديدة من نوع الفشل، وسط معارضة الكونغرس، في التجديد لقانون مكافحة الإرهاب الذي انكشف عن كونه قانوناً للتعدي بالدرجة الأولى على حريات المواطنين الأميركيين، إضافة إلى الفضائح التي لاحقت موظفي البيت الأبيض وعلى رأسهم مستشار نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني.‏

وفي حين كان العام 2005 يسدل أستاره على سلسلة من إخفاقات السياسة الأميركية في الداخل والخارج، كانت فضيحة المعتقلات السرية الأميركية في أوروبا التي اندلعت في أواخر العام تهدد، برغم محاولات طمسها في ظل التواطؤ الرسمي الأميركي ـ الأوروبي، بمضاعفات من شأنها إعادة التصدع إلى العلاقات الآخذة بالتحسن بين ضفتي الأطلسي، وإلى السياسات المعتمدة فوق الضفتين.‏

عقيل الشيخ حسين‏

الانتقاد العدد 1142 ـ 30 كانون الاول/ ديسمبر 2005‏

2006-10-28