ارشيف من : 2005-2008

العدد السنوي// 2005: أوروبا بين مشكلات الإرهاب والأمن وأزمات الإتحاد...

العدد السنوي// 2005: أوروبا بين مشكلات الإرهاب والأمن وأزمات الإتحاد...

التقارب الأميركي الأوروبي في مجال السياسات الخارجية يضع أوروبا في قلب معمعة تداعيات الحرب على الإرهاب، واعتماد قوانين متشددة لمكافحة الإرهاب يثير المخاوف من تقليص الحريات العامة. أما توسيع أوروبا شرقاً، فقد طرح جملة من المشكلات غير المنتظرة والمنطوية على تهديد حقيقي لمستقبل الاتحاد الأوروبي.‏

بدأ العام 2005 مكفهراً في أوروبا. إن على مستوى الاتحاد، وإن على مستوى المشكلات المرتبطة بالهجرة والشراكة المتوسطية، وإن على مستوى تداعيات الحرب على الإرهاب. فعلى مستوى الاتحاد استهل العام الجديد بأول انتخابات تشريعية شملت البلدان المنضمة حديثاً في وسط وشرق أوروبا، وجاءت النتائج لتحمل نسبة 51 في المئة من الممثلين المعادين بشراسة لفكرة الاتحاد ولفكرة بقاء بلدانهم فيه. ففي البلدان الغنية، تنامى الشعور الرافض لتخصيص قسم هام من الموازنة المشتركة للنهوض باقتصاديات الأعضاء الجدد، وفي البلدان الفقيرة تصاعد الحذر من أن يحمل الاتحاد شكلاً من أشكال الهيمنة الليبرالية التي خربت اقتصاديات بلدان عديدة لمصلحة الشركات العابرة للقارات.‏

وقد عبّرت أزمة الموازنة الاتحادية عن عمق المشكلة حيث فشلت المساعي التي بذلت بعد أشهر لحلحلة الخلاف الفرنسي ـ البريطاني المرتبط بالملف الزراعي، وبتخفيض إسهام لندن في الموازنة. وإذا كان طوني بلير قد ثبّت مواقعه من خلال انتخابه لولاية ثالثة في رئاسة وزراء بريطانيا، فإن الحل الوسط الذي تمثّل، في أواخر العام، بتراجعه الجزئي عن الموقف البريطاني المتعلق بتخفيض الإسهام المذكور، دون مقابل من قبل فرنسا، قد ينعكس سلباً على مستقبله السياسي، وربما أيضاً على مجمل العلاقة المترجرجة أصلاً بين الاتحاد وبريطانيا التي لا تزال تحتفظ بعملتها الخاصة، بعد مضي عامين على اعتماد العملة الموحدة من قبل جميع البلدان الأعضاء. وبالتوازي مع أزمة الموازنة، لا تزال مسألة المصادقة على مشروع الدستور الأوروبي مؤجلة في ظل الخوف من إثارة المشكلة التي هددت مستقبل الإتحاد، مع رفض المشروع في الاستفتاءين الفرنسي والهولندي. أما مسألة محادثات الانضمام التركي إلى الاتحاد، فقد استلزم إطلاقها تجاوز عدد من المشكلات الصعبة التي لم يكن تجاوزها ممكناً، ولو أن خمسة عشر عاماً طويلة ما زالت تبعد تركيا عن الانضمام الفعلي، فيما لو توافرت المفاوضات على كامل شروط النجاح.‏

أما بالنسبة لمفاوضات الشراكة الأوروبية المتوسطية فإن قمة برشلونة التي حشدت، في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي جميع رؤساء بلدان الاتحاد الأوروبي، مقابل موظفين من الدرجة الثانية أو الثالثة من بلدان الحوض الجنوبي والشرقي، لم تتمكن حتى من إصدار بيان ختامي بعدما تفجرت فيها الخلافات بين الطرفين العربي والإسرائيلي حول المشكلة الفلسطينية، وخصوصاً بعدما فشل المؤتمرون في الاتفاق على مقاربة مرضية لمشكلة الإرهاب، وتمييزه عن نضال الشعوب من أجل الاستقلال والتحرر.‏

وإذا كانت البلدان الرافضة للحرب على العراق، وخصوصاً فرنسا، قد عادت إلى إسلاس القياد للسياسة الأميركية، بعد جولة المصالحة التي قام بها الرئيس بوش إلى عدد من بلدان القارة القديمة، فإن هذا التطور قد رافقه إقرار قوانين متشددة لمكافحة الإرهاب على الطراز الانكلو أميركي في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وغيرها، ولكن دون أن يمنع من اكتواء أوروبا بشكل مباشر بنيران المشكلة الإرهابية. فبعد تفجيرات مدريد، جاءت تفجيرات لندن التي سقط فيها أكثر من 50 قتيلاً، إضافة إلى الجرحى، لتؤكد ضرورة مراجعة الموقف البريطاني في الحرب على العراق وسياسات مكافحة الإرهاب. وعلى الرغم من محاولات الإعلام لإظهار التفجيرات وكأنها مجرد تعبير عن الحقد الأعمى والتزمُّت الديني غير المبرر، ارتفعت الأصوات في بريطانيا وغيرها من البلدان الأوروبية لتدين مواقف طوني بلير في انسياقه المطلق وراء السياسات الأميركية.‏

فقبل أشهر على تفجيرات لندن، ورداً على تهويلات بلير بالخطر الإرهابي، أعلنت الهيئة القضائية العليا في بريطانيا أن الخطر الحقيقي الذي يتهدد بريطانيا لا يأتي من الإرهاب بل من قوانين مكافحة الإرهاب. وفي أعقاب التفجيرات، صدر عن المعهد الملكي البريطاني تقرير أكد أن حكومة بلير قد عرّضت بريطانيا للانتقام بسبب تحالفها مع الإدارة الأميركية. وبالمعنى نفسه، أعلنت الكنيسة الإنكليكانية في بريطانيا أن الحرب على العراق غير عادلة، وأن على الغرب أن يعتذر إلى المسلمين. وإذا كان وزير الخارجية البريطاني، جاك سترو، قد اعترف علناً بالعلاقة بين وجود القوات البريطانية في العراق وتفجيرات لندن، فإن هذا الاعتراف لم ينعكس بشكل إيجابي على مؤتمر ميونيخ للأمن الدولي، ولا على مؤتمر مدريد حول قضايا الإرهاب والديموقراطية، حيث استمر تجاهل الأسباب الحقيقية للمشكلة، إضافة إلى الامتناع عن التصدي لوضع تعريف علمي للإرهاب ولنضالات التحرر.‏

وإذا كانت فرنسا قد بقيت بعيدة عن موجة التفجيرات الإرهابية، فقد تعرضت لمشكلات داخلية قد تكون أبعد خطراً. ودون الحديث عن الانجراف الفرنسي المستجد وراء السياسات الأميركية، لا سيما في ما يتعلق بملفات الشرق الأوسط الساخنة، فإن انجرافها الداخلي نحو اليمين واعتمادها لسياسات متشددة تجاه مشكلة الحجاب والهجرة وما يرتبط بذلك من إثارات تضع الإسلام في مركز الحدث، هي في أساس ما سمي بـ"الليالي العشرين التي هزت فرنسا". فقد تطور حادث مقتل شابين من أبناء المهاجرين أثناء مطاردة بوليسية ملتبسة ليؤدي، في ظل ردود الفعل ذات الرائحة العنصرية من قبل مسؤولين في الحزب الحاكم، وخصوصاً من قبل نيكولا ساركوزي، أبرز المرشحين لرئاسة الجمهورية، إلى أحداث شغب شملت جميع المناطق الفرنسية، وأسفرت عن إحراق عشرات آلاف السيارات وإلحاق الدمار بالعديد من المرافق العامة والخاصة. وكما في بريطانيا ما بعد تفجيرات لندن، تم تسليط الأضواء في فرنسا على التشدد الديني في محاولة لصرف الأنظار عن الأسس الاجتماعية، وأشكال التمييز التي يعاني منها أبناء المهاجرين في مجالات السكن والعمل والدراسة. وإذ أمكن في النهاية احتواء أعمال العنف، فقد جاء قانون مكافحة الإرهاب الذي قدمه ساركوزي وصادقت عليه الجمعية العمومية ومجلس الشيوخ في أواخر العام، ليجعل من بلد إعلان حقوق الإنسان، باعتراف أكثر من مراقب، نظاماً بوليسياً ينطوي على تهديد حقيقي للحريات العامة.‏

وبعيد التظاهرات الحاشدة التي شهدتها المدن البريطانية والإيطالية احتجاجاً على الحرب على العراق، تفجرت فضيحة السجون الأميركية السرية في أوروبا الشرقية، ومئات الرحلات الجوية التي نظمتها وكالة الاستخبارات الأميركية، وأعمال اختطاف إسلاميين في أوروبا، ونقل سجناء إسلاميين في أجواء معظم بلدان أوروبا الغربية وعبر مطاراتها نحو جهات مجهولة، لتظهر تواطؤ الحكومات الأوروبية أو جهلها، بما يجري فوق أراضيها من انتهاكات أميركية لأبسط أشكال السيادة. وردت الحكومة الأميركية بالصمت المطبق على الاستيضاحات الملحة من قبل الحكومات الأوروبية وهيئات الإتحاد الأوروبي، ثم لم يلبث الصمت أن أصبح أوروبياً أيضاً بعد جولة كوندوليزا رايس الأخيرة. لكن استمرار التحقيقات مع ظهور المعلومات المتواترة حول هذا الملف، ما زال يهدد بمضاعفات محتملة وخطرة على حاضر ومستقبل العلاقات الأميركية ـ الأوروبية.‏

من جهة أخرى، لم تتمكن مفاوضات الترويكا الأوروبية مع إيران من التوصل إلى حل لمشكلة الملف النووي، كما فشلت في رفع الملف إلى مجلس الأمن، لكن ردود الفعل الأوروبية الرسمية كانت عنيفة على تصريحات الرئيس الإيراني حول محرقة اليهود، واقتراحه حل المشكلة جذرياً بتوطين اليهود في أوروبا أو الولايات المتحدة. كما غيّب الموت البابا يوحنا بولس الثاني، وتم انتخاب البابا بنديكت السادس عشر خلفاً له في الفاتيكان. ونجحت الثورة البرتقالية في أوكرانيا، ثم لم تلبث الخلافات أن دبت بين أعضاء الفريق الحاكم بانتظار ساعة الحسم الانتخابي في آذار/ مارس القادم، في وقت تتواصل فيه المساعي المرتبطة بمفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. كما شهدت أوروبا العام 2005 أنشطة ومؤتمرات طرحت فيها مشكلات الفقر في العالم الثالث، وتم شطب مديونيات عدد من البلدان الأكثر فقراً بمبادرة بريطانيا بوصفها رئيسة الاتحاد الأوروبي للنصف الثاني من العام، الأمر الذي اعتبره المراقبون مظهراً للنفاق لأن المديونيات المشطوبة لا تشكل غير قسط زهيد من الأموال المستوفاة التي تزيد بمئات الأضعاف عن أصل المديونيات. كما شهد العام أنشطة متعلقة بالكارثة المناخية، منها قمة غلينيغز في بريطانيا التي حالفها الفشل، كسائر القمم المماثلة، بسبب استمرار الامتناع الأميركي عن توقيع بروتوكولات كيوتو، وعن المشاركة في مفاوضات ما بعد البروتوكولات، وذلك لاعتبارات أنانية تتعلق بالمحافظة على وتائر نمو الاقتصاد الأميركي، ولو على حساب المصلحة العالمية. وفي هذا المجال كان لأوروبا نصيبها من الاضطرابات المناخية حيث تعاقبت، خلال الصيف الماضي، موجات الجفاف والحرائق، مع الأعاصير والفيضانات التي أوقعت نحو مئة قتيل، إضافة إلى الخسائر المادية، في الرقعة الممتدة من رومانيا إلى البرتغال. كما كان لأوروبا حصتها أيضاً في مرض انفلونزا الطيور الذي ظهرت بؤر له في تركيا وروسيا ورومانيا واليونان وبلدان أوروبية أخرى، ما شكل، في ظل الهلع الشعبي المعمم، مناسبة لإفراغ الصيدليات من العقارات المضادة لأنواع الانفلونزا، وفتح فرصاً واسعة أمام الاستثمار الأميركي في "طعم" يقال بأنه ناجع في مكافحة الفيروس المسؤول عن المرض.‏

عقيل الشيخ حسين‏

الانتقاد العدد 1142 ـ 30 كانون الاول/ ديسمبر 2005‏

2006-10-28