ارشيف من : 2005-2008
العدد السنوي // 2005 في العراق .. عام بناء دولة المؤسسات وترسيخ أسس الديمقراطية

بغداد ـ عادل الجبوري
لا يختلف اثنان على ان عام 2005 كان حافلاً في العراق بأحداث ووقائع يمكن وصفها بـ"التاريخية"، لانها مثلت أبرز مظاهر ومعالم وملامح إرساء دولة المؤسسات والقوانين، وترسيخ الممارسات الديمقراطية الحقيقية في بلد افتقدها بالكامل منذ سبعة وأربعين عاما.
انتخابات
وقد تكون مفارقةً ان يستهل العراقيون عام 2005 بانتخابات برلمانية عامة، وينهونه بانتخابات برلمانية اخرى. والانتخابات الاولى التي جرت في الثلاثين من كانون الثاني/ يناير الماضي، وهي اول انتخابات برلمانية حقيقية يشهدها العراق منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في اب/ اغسطس 1921، تمخضت عن تشكيل جمعية وطنية انتقالية (برلمان موقّت) وحكومة عمرهما بضعة شهور.
وكان يوم السادس عشر من آذار/ مارس يوما تاريخيا في حياة العراقيين، حيث شهد عقد اول جلسة للبرلمان المنتخب برئاسة الشيخ ضاري الفياض الذي كان اكبر الاعضاء سناً، والذي لقي حتفه مع ولده وعدد من حراسه قبل عدة شهور بالقرب من منزله في منطقة الراشدية شمال شرق العاصمة بغداد، وقامت الجمعية الوطنية باختيار الزعيم الكردي جلال الطالباني أول رئيس عراقي منتخب، اضافة الى كل من عادل عبد المهدي وغازي الياور نائبين له، وبدوره قام الرئيس بتكليف ابراهيم الجعفري القيادي في الائتلاف العراقي الموحد بتشكيل الحكومة، التي اعلنها في الثامن والعشرين من نيسان/أبريل.
ولعل المهمة الرئيسية التي كانت تقع على عاتق الجمعية الوطنية والحكومة وفق قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية هي كتابة الدستور الدائم وعرضه على الاستفتاء الشعبي العام بالدرجة الاساس، وكذلك معالجة الاوضاع الامنية والاقتصادية والخدمية السيئة للعراقيين.
وبالفعل فقد تحقق ذلك في فترة زمنية قياسية لم تتجاوز الثلاثة شهور ليعرض بعدها على الاستفتاء الشعبي العام، وكان هذا هو التحدي الاكبر امام الجمعية الوطنية والحكومة، وتحديداً الائتلاف العراقي الموحد الذي يمثل كتلة الاغلبية تحت قبة البرلمان. وكان اجراء الاستفتاء في موعده المقرر من دون حدوث مشكلات وأزمات حادة خطوة مهمة نحو الخطوة الاخرى الاهم والمتمثلة بإجراء الانتخابات البرلمانية العامة في موعدها المقرر، في الخامس عشر من شهر كانون الاول/ ديسمبر.
تحديات امنية
ولعله كان من الطبيعي ان تحقيق اية انجازات على صعيد العملية السياسية في العراق مرتبط بصورة او بأخرى بمجمل الاوضاع الامنية، التي شكلت واحدا من اكبر واخطر التحديات امام حكومة ابراهيم الجعفري بعد ان ورثت عن حكومة اياد علاوي أجهزة أمنية وعسكرية غارقة في الفساد الاداري والمالي، واختراقات وتغلغل بقايا نظام صدام في مفاصلها الحساسة والمهمة.
ومع ان حكومة الجعفري نجحت في تطوير وتحديث الاجهزة والمؤسسات الامنية والعسكرية إن على مستوى الكم او النوع او التجهيز، الامر الذي ادى الى انحسار الارهاب بدرجة لا بأس بها في مختلف مناطق العراق لا سيما البؤر الساخنة في المدائن واللطيفية وتلعفر والمناطق الغربية التابعة لمحافظة الرمادي، برغم ذلك فإن العمليات الارهابية التي شهدها الشارع العراقي خلال عام 2005 حصدت ارواح مئات ـ ان لم يكن الاف ـ المدنيين الابرياء، ويكفي هنا ان نشير الى التفجيرات التي استهدفت عددا من المساجد والحسينيات في مدينة الشعلة ومناطق اخرى من العاصمة بغداد اواخر شهر نيسان/ ابريل، والتي تزامنت مع اسبوع المودة والمحبة الذي اعلنه السيد عبد العزيز الحكيم لمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، وكذلك التفجيرات العشرة في بغداد التي جاءت بعد يوم واحد من اعلان تشكيل الحكومة، والتفجيرات الثلاثة في منطقة الكرادة صبيحة يوم الثاني والعشرين من حزيران/ يونيو، والعملية الارهابية في مدينة المسيب (70 كم جنوب بغداد)، وبعدها بوقت قصير كارثة جسر الائمة الفاصل بين مدينتي الاعظمية والكاظمية صبيحة يوم ذكرى استشهاد الامام موسى الكاظم عليه السلام، والذي صادف الحادي والثلاثين من آب/ اغسطس الماضي، إضافة الى عمليات ارهابية اخرى في خانقين وكركوك وغيرهما.
واذا كانت العمليات الارهابية المشار اليها قد حصدت ارواح الآلاف من الابرياء، فإنه بحسب احصائيات دورية لوزارة الداخلية ان العمليات الارهابية على اختلاف اشكالها واساليبها كانت تتناقص شهريا، الى جانب تزايد عدد الارهابيين والمجرمين الذين يتم القاء القبض عليهم، وكذلك كميات الاسلحة المختلفة التي يتم العثور عليها.
ولعل الشيء المهم في هذا الجانب هو ان الجماعات الارهابية المسلحة اتجهت الى استهداف الدبلوماسيين العرب والاجانب في العراق بالاختطاف والاغتيال وذلك للضغط على حكوماتهم لمنعها من توسيع ورفع مستويات حضورها وتمثيلها الدبلوماسي في العراق باعتبار ان ذلك يضفي شرعية على مجمل الوضع السياسي القائم ومن ضمنه الاحتلال.
فخلال وقت قليل اختطفت الجماعات المسلحة القائم بالاعمال المصري في بغداد ايهاب الشريف وقتلته بعد ايام قلائل، ومن ثم تعرض القائم بالاعمال البحراني في بغداد احسان مال الله الانصاري وكذلك السفير الباكستاني محمد يونس خان الى محاولات اغتيال، وبعدها بحوالى شهرين تم اختطاف وقتل اثنين من الدبلوماسيين الجزائريين.
هذه العمليات مثلت بنظر بعض السياسيين تكتيكا جديدا للجماعات المسلحة تزامن مع تفعيل الحركة السياسية والدبلوماسية بين بغداد وعواصم عربية وغير عربية.
دور عربي
وقد كان واضحا للمراقب السياسي ان الساسة العراقيين الذين تسلموا زمام الامور بعد انتخابات الثلاثين من كانون الثاني/ يناير الماضي اتجهوا الى احداث نقلة في السياسة الخارجية، علما ان عهد الحكومة السابقة قد شهد مثل ذلك الاتجاه.
وكان رئيس الجمهورية جلال الطالباني قد استهل تحركه الخارجي عندما زار الاردن وعقد لقاءات مفصلة مع كبار قادتها قبل ان يتوجه الى العاصمة البرازيلية برازيليا لحضور القمة العربية ـ اللاتينية، هناك في شهر نيسان/ ابريل.
ومع ان زيارة الطالباني لعمان جاءت بعد تأزم العلاقات مع بغداد على خلفية قيام عائلة الاردني رائد منصور البنا بتنظيم مجلس فرح بعد تنفيذ الاخير عملية انتحارية في مدينة الحلة، اودت بحياة اكثر من مئة وثلاثين عراقيا، الا ان تلك الزيارة حددت منهجا جديدا للعلاقات بين البلدين تبلور فيما بعد في قدر كبير من التعاطي الايجابي من قبل عمان مع استحقاقات الوضع العراقي، وجاءت زيارة رئيس الوزراء الاردني السابق عدنان بدران لبغداد ـ وهي اول زيارة لمسؤول سياسي عربي بهذا المستوى للعراق منذ الاطاحة بنظام صدام ـ لتضع كثيرا من النقاط على الحروف، تبعتها زيارة رئيس الوزراء العراقي ابراهيم الجعفري لعمان.
ولكن ذلك المنحى الايجابي الاردني لم يكن كافيا لاعادة تقويم لمجمل الموقف والدور العربي ازاء مجريات الامور في العراق بصورة ايجابية، فقد كانت تظهر بين الفينة والاخرى انتقادات حادة على لسان سياسيين عراقيين للدول العربية بسبب عدم تفعيل تمثيلها الدبلوماسي في العراق وعدم انفتاحها عليه في الوقت الذي كانت دول اعضاء في الاتحاد الاوربي ودول اقليمية تتجه الى تعزيز علاقاتها مع العراق.
وكان ذلك واضحا من خلال زيارات عدد غير قليل من رؤساء حكومات ووزراء خارجية ودفاع وسياسيين كبار لبغداد، ولقاءاتهم مع كبار الساسة هناك، وفي نفس الوقت كان رئيس الوزراء العراقي وعدد من وزرائه يحرصون على التحرك في كل الاتجاهات والمشاركة في شتى المحافل الدولية والاقليمية لتعزيز حضور العراق واستعادة دوره ومكانته في المجتمع الدولي.
ويبدو ان الاسرة السياسية العربية متمثلة بجامعة الدول العربية ادركت قصورها وتقصيرها ازاء العراق، لذلك راحت تتحرك بسرعة لمعالجة ذلك الخلل، واستهلت الخطوة الاولى بزيارة الامين العام المساعد للجامعة احمد بن حلي لبغداد، ومن ثم زيارة الامين العام عمرو موسى وطرح مبادرة مؤتمر الوفاق الوطني، وبالفعل نجحت الجامعة في لم شمل الفرقاء السياسيين العراقيين تحت سقف الجامعة في القاهرة، وكان لتلك الخطوة اثر سياسي كبير بالنسبة للاخيرة وبالنسبة للعراقيين.
بيد ان قسماً غير قليل من العراقيين ـ ساسة وأناساً عاديين ـ ما زالوا يرون ان العرب لم يقوموا بما يجب ان يقوموا به ازاء بلد، ربما ساهموا بشكل او بآخر في ايصاله لما وصل اليه عبر دعمهم لعقدين من الزمن النظام السابق وتأييدهم ـ أو في أدنى تقدير صمتهم عن ـ سياساته.
في ذات الوقت هناك من يرى ان نجاح العملية السياسية في العراق، وان كان لا يشكل مبعث ارتياح العديد من الانظمة السياسية العربية التقليدية فإنه سيرغم تلك الانظمة على الانفتاح بصورة أكبر على جارها الشرقي، وما يمكن ان يعزز ويدعم ذلك الانفتاح هو الانفتاح الدولي والاقليمي، وايضا الارهاب وتحدياته، الذي بات يهدد الجميع دون استثناء، ولعل ما تعرض له الاردن عندما تفجرت ثلاثة من فنادقه (خمس نجوم) في العاصمة عمان في اطار عمليات ارهابية تبناها ابو مصعب الزرقاوي هو خير مثال على ذلك.
ولا بد من الاشارة إلى أن العام 2005 شهد أول ظهور علني لصدام حسين بعد اعتقاله، ولكن خلف قضبان المحكمة هذه المرة التي بدأت جلساتها في قضية بلدة الدجيل، وهي ما زالت مستمرة.
وبما أن الملفات تتداخل وتتشابك مع بعضها البعض فإن رؤية استشرافية للمشهد السياسي العراقي في عام 2006، تنتهي الى ان التحول السياسي في العراق لا بد ان يفضي الى علاقات خارجية اكثر فاعلية ونجاعة مع محيطه العربي والاقليمي والدولي، وهذه العلاقات سيكون واحداً من عناوينها الامن وسبل مواجهة الارهاب، وعنوان آخر هو الاقتصاد والمصالح المشتركة في هذا الاطار، ما يعني في النهاية ان العام المقبل سيكون مختلفا في الكثير من جوانبه عن هذا العام الذي يوشك على طي صفحاته الاخيرة.
الانتقاد العدد 1142 ـ 30 كانون الاول/ ديسمبر 2005