ارشيف من : 2005-2008
العدد السنوي// العام 2005 إسرائيلياًَ: سقوط الفكر اليميني الصهيوني

يحيى دبوق
شهد العام 2005 إسقاطاً وتوكيداً عمليين لخلاصات توصّل إليها متخذو القرار الإسرائيلي ومبلوروه تجاه القضية الفلسطينية والمواجهة مع الفلسطينيين، وهي خلاصات تحصّلت نتيجة إخفاق المواجهة السياسية والعسكرية التي فعّلتها "إسرائيل" طوال سنوات الانتفاضتين، الأولى والثانية، وما تلاها من مواجهات تخللها صمود وإصرار فلسطيني على عدم الرضوخ للاملاءات، بحيث دفعت بالإسرائيلي إلى إعادة مقاربة القضية الفلسطينية مقاربة غير تقليدية كانت "إسرائيل" قد اعتادت أن تسلكها في الأزمات التي تواجهها في هذه الساحة.. إذ اضطرت "إسرائيل" برغم حجم السجال الداخلي حوله، إلى بدء إعادة تموضع جغرافي ضمن الأراضي الفلسطينية المحتلة من خلال خطة الفصل عن الفلسطينيين، وأول تمظهرات هذه الخطة كان الانسحاب من قطاع غزة بالكامل، مع انسحاب عسكري جزئي من شمال الضفة الغربية.. وهذه الخلاصات، التي تصلح أن تكون منطلقاً لفهم مآلات الوضع المستقبلي على ساحة المواجهة مع الكيان الإسرائيلي فلسطينيا، باعتبار أن الإسرائيلي هو صاحب المبادرة في ظل التراجع العربي، تتركز في النقاط الثلاث التالية:
* لا يوجد حل سياسي يستوعب الأطماع الإسرائيلية والحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، برغم حجم التراجع الكبير في السقف الفلسطيني الرسمي منذ العام 1993.
* لا يوجد حل عسكري ينهي القضية الفلسطينية، وهي حقيقة يقر بها المسؤولون السياسيون في الكيان الإسرائيلي، فضلا عن العسكريين والأمنيين.
* لا توجد فائدة من المراوحة الميدانية، بين فعل ورد فعل دون أفق، التي ستجلب في لحظة زمنية غير مؤاتية تدخلاً خارجياً له أن ينتج طرحا، أو حلا، سياسيا، لا يتسق مع حجم الأطماع الإسرائيلية.
وبالتالي فإن أهم تحوّل على الساحة الفلسطينية عامة، شهده العام 2005، بفعل الصمود الفلسطيني، كان الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، الذي شكّل مفصلا أساسيا لا يُميِّز فقط هذا العام عن العام الذي سبقه، لكنه مفصل لفترة الانتفاضة برمتها، بحيث يتمايز ما قبل الانسحاب عمّا بعده خلال هذه الفترة، وكل الحراك الإسرائيلي الداخلي خلال العام المنصرم كان متمحوراً حول هذا الانسحاب، بما يخدم أو يضر بتوفير الشروط التي تُمكِّن من تحقيقه، إن لجهة إخراج وخروج لأقطاب مختلفين من الحكومة الإسرائيلية، أو لجهة إدخال ودخول أقطاب آخرين فيها، ناهيك عن السجالات الإعلامية المتعددة بين مؤيد ومعارض في محاولة للتأثير على الرأي العام الإسرائيلي الذي واصل تأييده لأصل الفكرة، بعد إدراكه بأن القوة المتفوقة لا تكفي لفرض إرادة "إسرائيل" على الشعب الفلسطيني وحسم الصراع معه بالقوة..
إن اصل طرح الانسحاب من قطاع غزة على جدول الأعمال الإسرائيلي، انعكس جدلا وانقساما حادين على مختلف المستويات في الكيان، وهو ما تعزز (الانقسام) لحظة تنفيذ الانسحاب وفي الفترة التي تلته، بحيث تعددت هذه التداعيات وتشعبت، ليس في المعسكر الواحد (اليمين) المعني بالطرح والقابض على زمام السلطة فقط، وإنما لدى معظم المعسكرات الأخرى.. وعلى الرغم من إمكانية تقسيم هذه التداعيات اعتباريا لحاجات العرض، إلا أنها واقعا تبقى أسباباً وعوامل تأثرت بالانسحاب، لكنها في الوقت نفسه تأثرت فيه أيضاً، بل أن البعض منها كان سببا مباشرا له، كما هو نتيجة، في آن معا:
سقوط الفكر اليميني الإسرائيلي: يمثل طرح الانسحاب عن أجزاء مما يسمى بأرض "إسرائيل" الكاملة على يد قطب أساسي ومركزي فيه (أريئيل شارون) تخطيا لمحرمات قائمة في الفكر اليميني الإسرائيلي، الذي يرى تاريخيا ولغاية الإقرار بعدم القدرة على هزيمة الفلسطينيين عسكريا، أن قطاع غزة والضفة الغربية هي أراضٍ يهودية لا يمكن التخلي عنها لخصوصيتها التاريخية والأمنية، بحيث تمحور الطرح العام الذي قدمه الفكر اليميني الصهيوني تاريخيا، على الاحتفاظ بهذه الأراضي وإيجاد حلول "للسكان" الفلسطينيين خارجها، وهي حلول تفاوتت بين ترحيل الفلسطينيين عن أرضهم أو إبقائهم فيها مع نزع حقهم عنها، في صيغ متعددة جرى طرحها من قبل اليمين، ومن بينهم أريئيل شارون نفسه، الذي تبنى مفهوم التخلي عن أجزاء من "ارض إسرائيل الكاملة"، من خلال انسحابه عن القطاع.. وما يؤكد ويعزز سقوط هذه الطروحات، أن جزءا كبيرا من الجمهور اليميني يتبناها ويؤيدها من خلال تأييده لأريئيل شارون.
انشقاق الليكود وتزعزع مكانته: شهد العام 2005 انقسامات حادة في حزب الليكود على خلفية الانسحاب من قطاع غزة، بحيث انقسم عمليا إلى حزبين في إطار حزبي واحد، قسم سُمّي بالمتمردين بما يشمل المعارضين لأريئيل شارون أيديولوجياً وغير أيديولوجي، وقسم آخر بقيادة شارون نفسه صاحب طرح الانفصال عن الفلسطينيين.. إذ لغاية انشقاق شارون عن الليكود وتأسيسه لحزب جديد (كديما)، تصرف المعسكران تصرفا متضادا في الحكومة والكنيست الإسرائيليين، خطابا وتصويتا واقتراحا وحراكا سياسيا، بحيث جاءت خطوة شارون الانفصالية عن الليكود تكريسا لواقع قائم، وبالتالي لم تشكل مفاجأة كبيرة لكل المتابعين للشأن الإسرائيلي..
كان لدى شارون خيار آخر غير الانشقاق عن الليكود، هو متابعة السباق والكباش مع معارضيه داخل الحزب، لكنه أدرك انه في حال فوزه في رئاسة الحزب، وهو موضع شك، كان لديه عقبة انتخاب لائحة مرشحي الحزب للانتخابات، التي ستحمل إلى الكنيست القادم قسما كبيرا من معارضيه، ما يعني أن واقع الليكود المنقسم سيعيد إنتاج نفسه من جديد، وسيقيد حراكه السياسي ومخططاته المرسومة لمواجهة الفلسطينيين للفترة القادمة.. وخاصة أن استطلاعات الرأي أظهرت أن المقاعد التي سيجبيها الليكود في الانتخابات ستكون بفضل التأييد الذي يملكه شارون في الشارع الإسرائيلي.. فكان خياره الانفصالي وتأسيس حزب كديما.
فوز بيرتس برئاسة حزب العمل: مثل فوز عمير بيرتس برئاسة حزب العمل انقلابا حقيقيا في الحزب وقع وقوع الصاعقة على مجمل الخارطة الحزبية في الكيان الإسرائيلي، بحيث كانت له تداعيات متسارعة على الساحة الداخلية الإسرائيلية، إذ جرى إقرار تقديم موعد الانتخابات العامة بموجبه، وسرّع من انشقاق شارون عن حزب الليكود.
وكان حزب العمل قد تجمد في العام 2005 برئاسة شمعون بيرس كملحق لأريئيل شارون ولسياساته، مقدما له التغطية اللازمة من خلال الائتلاف الحكومي أو من خلال تسويق طروحاته لدى الشارع الإسرائيلي وفي المحافل الدولية، لما لبيرس من علاقات خارجية معروفة.. إلا أن فوز عامير بيرتس شكّل صدمة حقيقية لبيرس الذي سارع إلى الانضمام لأريئيل شارون فور تشكيله لحزب كديما، في إشارة واضحة إلى مدى التناغم القائم بينهما.
وإذا كان انتخاب بيريتس قد أطلق ديناميكية كان يفقدها العمل خلال ترؤسه من قبل شمعون بيرس الذي حافظ على شبه توأمة سياسية مع شارون، إلا انه من الصعب تقدير وضع العمل المستقبلي للفترة القادمة كمبلور لسياسة مغايرة عن سياسات "إسرائيل" القائمة على المسار الفلسطيني تحديدا، بحيث يراها الجمهور الإسرائيلي بديلا عمليا معقولا وتلقى منه مساندة ودعماً ضروريين لإعادة توليه السلطة.
ولا يمكن القول ان هناك ثورة مفاهيمية على مستوى حزب العمل، وإنها هي التي كانت مسؤولة عن الانقلاب فيه، على الرغم من وضوح آراء عامير بيريتس اليسارية تجاه الصراع مع الفلسطينيين، إذ انه لم يفز بعدد ساحق من الأصوات خلال الانتخابات الداخلية في الحزب، ما يرجح أن التغيير قد طال رأس القمة دون أن ينسحب على القاعدة أو على الأقطاب الآخرين في الحزب.. ما يعني أن سقوط حزب العمل في الانتخابات إلى ما دون سلة المقاعد التي يحوزها حالياً (22 مقعدا) يعني سقوطا مؤكداً لعامير بيرتس، وإعادة مواءمة ما بين القمة والقاعدة من جديد.. أي تراجع حزب العمل إلى موقعه كملحق بسياسات أريئيل شارون.
حزب كديما والاستهدافات السياسية الجديدة: ينظر إلى انسحاب أريئيل شارون من حزب الليكود وتأسيسه حزبا جديدا (كديما)، وبحق، كحدث تأسيسي في المنظومة الحزبية وفي السياسة الإسرائيلية بشكل عام، يعيد الاعتبار إلى التنوع التقليدي بين اليسار واليمين والوسط أمام الناخب الإسرائيلي.. مع التشديد على النسبية في تسميات وتوصيف الأحزاب الإسرائيلية عامة.
وانتقال شارون إلى الوسط، أو إلى وسط اليمين تحديدا، لا يعني أن مقاربته للصراع مع الفلسطينيين قد تتغيّر، أو اقله قد تتسع، ليحاكي عمليا اليسار الإسرائيلي بطروحاته التقليدية (الانسحاب حتى خط الرابع من حزيران عام 1967)، إذ أن مشروع أريئيل شارون سيبقى للعام 2006، في حال فوزه في الانتخابات القادمة، وهو المرجح، متمركزا على الفصل عن الفلسطينيين بما يراه مناسبا وممكنا انطلاقا من الخلاصات المذكورة آنفا.. وبالتالي سيعمد إلى التشبث بخارطة الطريق تكتيكيا بحسب التفسير الإسرائيلي للخارطة (لا تقدم من دون تفكيك البنية التحتية "للإرهاب" الفلسطيني) مع استكمال جدار الفصل حول الفلسطينيين في الضفة الغربية، الذي يضم الكتل الاستيطانية الكبيرة.. ما يعني فصلا عن الفلسطينيين في الضفة الغربية واقتطاع اكبر مساحة ممكنة منها.
وإذا كان الحراك الإسرائيلي للعام 2006، سياسيا وعسكريا، سيتمحور حول استكمال تنفيذ ما يستطيعه أريئيل شارون من خططه قبالة الفلسطينيين، إلا أن هذه الخطط، الانفصال تحديدا، وبالطريقة التي يراها شارون مناسبة لـ"إسرائيل" نظرا لحجم الصعاب القائمة في إملاء إرادته على الفلسطينيين، لا تعني انه استطاع تصفية القضية الفلسطينية، بل جل ما يمكن استخلاصه هو أن "إسرائيل" أعادت تموضعها الجغرافي في محاولة أخيرة منها أملاً بإنهاء الصراع من جانب واحد ودون اتفاقيات معقودة مع الفلسطينيين، تلافيا لثمن لا يتسق مع مصالحها كما يراها شارون.. لكن اصل الصراع وجوهره، وجذوة النضال الفلسطيني، تبقى خارج إطارات الفصل، ولا تنفع معها كل جُدُر العزل التي يقيمها شارون، إذ أن تقديم فتات من الأرض، برغم دلالاته، لا يعني ان الإسرائيلي لم يعد محتلا، ولا يعني سحب حافزية الشعب الفلسطيني لاستكمال تحرير أرضه، مع جدار أو من دونه.
الانتقاد العدد 1142 ـ 30 كانون الاول/ ديسمبر 2005