ارشيف من : 2005-2008
حرب الغاز: عودة روسيا إلى المسرح الدولي

ثلاثة أيام هزت أوروبا في ظل "حرب الغاز" التي نشبت الأسبوع الماضي بين روسيا وأوكرانيا. حرب كان من الواضح فيها أن "الجنرال شتاء" سيلعب دوراً رئيسياً في تقرير نتيجتها الحاسمة، وخصوصاً أن موجة البرد غير الاعتيادي التي تضرب أوروبا حالياً شبيهة بالبرد الذي ساعد روسيا في الماضي على إلحاق الهزيمة بجحافل بونابرت وهتلر. وخصوصاً أيضاً لأن عنصر الحسم في مكافحة البرد عن طريق التدفئة، أي الغاز الطبيعي، يأتي جزئياً، ولكن بشكل شديد الأثر، من روسيا بالذات.
مجمل القصة أن ربع كمية الغاز التي تستهلكها أوروبا يصلها من روسيا عبر أنابيب تمر في الأراضي الأوكرانية. وهذه النسبة ترتفع لتشكل 55 في المئة من استهلاك النمسا مثلاً. أي أن وقف الإمدادات أو خفضها من شأنه أن يؤدي إلى أوضاع حرجة على مستوى الاقتصاد والحياة المنزلية في أوروبا حيث يشكل الغاز احتياجاً يومياً لا غنى عنه. وهذا ما حصل بالفعل عندما عمدت شركة غاز بروم الروسية إلى وقف ضخ الغاز إلى أوكرانيا بحجة أن هذه الأخيرة "تسرق" كميات من هذه المادة أثناء مرورها في أراضيها. وسواء صحت هذه الدعوى أم لم تصح، فإن واحداً من الدوافع الحقيقية التي حركت الموقف الروسي يكمن في رغبة موسكو في رفع سعر الغاز بنسبة أربعة أضعاف عما كان عليه قبل أيام، في نهاية العام 2005. وقد يبدو، للوهلة الأولى، أن هذه الرغبة مبالغ فيها، لكن الأرقام تثبت أن المطلب الروسي يتمتع بالكثير من الوجاهة والواقعية، قياساً إلى حالة سوق الغاز في أوروبا. فالسعر المتداول فيها كان في حدود الـ230 دولاراً للألف متر مكعب في نهاية العام، لكن الغاز الروسي كان يصل إلى أوروبا بأسعار تتراوح، بحسب اختلاف البلدان والتفضيلات السياسية والاقتصادية، بين 47 دولاراً، لبلد حليف مثل بيلوروسيا، و135 دولاراً كمعدل وسطي للبلدان الأخرى، مع الإشارة إلى أن أوكرانيا كانت في طليعة المستفيدين من التفضيلات بسعر لا يتجاوز الخمسين دولاراً للألف متر مكعب.
وقد برزت أحقية الموقف الروسي في مطلب رفع الأسعار من خلال رد الفعل الأوكراني الذي لم ينكر المطلب، واكتفى بالمطالبة برفع الأسعار بشكل تدريجي. كما برزت أيضاً في سرعة رضوخ أوكرانيا للمطلب الروسي ليس فقط بسبب قوة الموقف، بل لأن الحاجة الملحة في أوروبا لوقف حرب الغاز كانت في أساس انطلاق أصوات أوروبية طلبت، كما في حالة فرنسا، تجنب تحريض أوكرانيا على معاندة المطلب الروسي. وعلى كل حال انتهت الأزمة بتوقيع اتفاق لمدة خمسة أعوام، اعتباراً من مطلع العام الحالي، بين روسيا وأوكرانيا على أساس تحديد سعر 230 دولاراًً للألف متر مكعب من الغاز.
ولكن هل أنهى الاتفاق المذكور حرب النفط بين روسيا وأوكرانيا، ومن خلالها بين روسيا وأوروبا؟ أم أنه كرس انتصاراً لروسيا في معركة قد تتبعها معارك أخرى؟ ما يمكن قوله حتى الآن هو أن "صدمة الغاز" الروسي قد أصبحت بحكم الأمر الواقع بالنسبة لأوروبا، بعد ما سمي بـ"صدمة النفط" العربي عام 73، والإيراني عام 79 من القرن الماضي. وإذا كان قد أمكن حتى الآن، وفي ظل السياسات التي تحكم أوبك، منع النفط والمواد الأولية المستخرجة في العالم الثالث من القيام بدور سياسي فعال مقابل الدور الذي تلعبه السلع والخدمات الغربية، فهل تكون حرب الغاز مجرد حرب تجارية أم أنها قد تتجاوز هذا الإطار إلى الإطار السياسي؟
واشنطن سارعت، بلسان الناطق باسم خارجيتها، سين ماكورماك، إلى الإعراب عن الأسف لقطع إمدادات الغاز الروسي، واعتبرت أن الخطوة ضغط سياسي مباشر على أوكرانيا وأوروبا. والعواصم الأوروبية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي بدت عليها أعراض الخوف، وبادرت إلى إطلاق تصريحات شذت عن اللهجة المألوفة في تقريع روسيا وحشرها في الزاوية الضيقة. وقد يمكن القول ان حرب الغاز قد أعادت وضع فكرة الخطر الروسي في طليعة شجون أوروبا بعد سنوات من التراجع الذي منيت به موسكو في البلقان والقفقاس وآسيا الوسطى والبلطيق وأوكرانيا. ويبدو أن حرب الغاز بين موسكو وكييف قد شكلت منعطفاً هاماً في العلاقة بين الوريثين الرئيسيين للتركة السوفياتية بشكل يمكن اعتباره بداية لتصفية حسابات قد بدأت تأخذ أشكالاً ثأرية رداً على التقارب الأوكراني ـ الغربي من خلال الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، وأخيراً من خلال الثورة البرتقالية التي بدأت تعاني من أعراض التفكك، والتي تنتظرها لحظات حرجة في انتخابات الرئاسة المقررة في آذار/ مارس المقبل. والواقع أن حرب الغاز لم تبدأ بقطع الإمدادات بل بدأت قبل ذلك بأيام قليلة مع الإعلان عن توقيع اتفاق لإقامة خط أنابيب ضخم بين روسيا وألمانيا مباشرة، ما يعني أن الاستغناء الروسي عن أوكرانيا في هذا المجال قد أصبح مسألة وقت لا أكثر. ويبقى السؤال الكبير: ما الذي يفسر هذا الانتقال الواضح من قبل موسكو في علاقتها مع الغرب من موقع الانكماش إلى موقع التصلب في ملف الغاز والمناورات العسكرية المشتركة مع الصين ومبيعات السلاح لإيران وسوريا، إضافة إلى الملف النووي الإيراني والمواقف الرافضة للهيمنة الأميركية في مجلس الأمن؟ لا شك بأن المأزق الأميركي في الشرق الأوسط يقدم جزءاً هاماً من الإجابة.
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1144 ـ 13 كانون الثاني/ يناير 2006