ارشيف من : 2005-2008

"إسرائيل" والملف النووي الإيراني: انقضاض إعلامي وتحريض، وفقدان للخيارات الناجعة

"إسرائيل" والملف النووي الإيراني: انقضاض إعلامي وتحريض، وفقدان للخيارات الناجعة

كتب يحيى دبوق‏

تكاد تَجُلّ عن الحصر، مدلولات تغيُّر القوة الإيرانية المستشرفة إسرائيلياً على خلفية تطورات الموضوع النووي الإيراني، التي تعني، فيما تعنيه، خطراً وجودياً على الكيان الإسرائيلي وسيفاً مصلتاً عليه، بحيث تفقد "إسرائيل" معه مكوّناً أساسياً من مكوّنات التفوق الاستراتيجي، الذي حافظت عليه في وجه أعدائها لعشرات السنين..‏

ويزيد من مأزومية "إسرائيل" في ظل هذا الواقع المتشكِّل حديثاً، أو يكاد، انه في الوقت الذي تعتبر فيه متلقياً أساسياً لانعكاسات القدرة النووية الإيرانية، تبقى "إسرائيل" مفردة فرعية ضمن عدة أطراف متصدّية للمشروع النووي الإيراني، لتصبح عامل تأثير بين فاعلين كثر، إن طواعية، كما يردد ويشيع الإسرائيليون تمكيناً للجهود الدبلوماسية أن تأخذ فرصها! أو قسراً كما تشير سائر المؤشرات المادية وغير المادية الدالة على قصر اليد العملياتية في مواجهة إيران، وهو قصور لا يخفيه أيضاً جملة واسعة من المحللين الإسرائيليين، وراكم عليه مؤخراً رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أهارون زئيفي، الذي اعترف بإخفاق الاستخبارات الإسرائيلية في وجه إيران، بل رأى انه "في هذه المعركة فإن يد الإيرانيين هي العليا، والكبح السياسي في خطر". (معاريف 1-12-2005).‏

وترى "إسرائيل" أن تموضعها العلني إلى جانب حلفائها الآخرين المتكتلين في جبهة الصراع والمواجهة ضد المساعي النووية الإيرانية، يعني عملياً مواجهة إيرانية إسرائيلية مباشرة، الأمر الذي يفقد الائتلاف المتشكِّل القدرة على التأثير الناجع.. من هنا تحرص "إسرائيل" على "بروفيل منخفض" قبالة إيران، وتعلن أن مشروعها النووي هو مشكلة وتهديد دولي يستدعي نشاطاً مشتركاً من دول أخرى لمواجهته. لكنها في نفس الوقت تواصل محاولاتها المحمومة، العلنية منها وغير العلنية، لإبقاء الملف النووي الإيراني في صدارة الاهتمامات الدولية، ورفده بكل ما من شأنه تأمين استمرار منسوب الضغط المناسب على طهران، ووضعها في مرمى التصويب الدولي.. ومن ضمن هذه المحاولات، وليس حصراً فيها، الحديث المتكرر عن نقطة اللاعودة الإيرانية، التي تعني إسرائيلياً، أن إيران وصلت إلى نقطة الاكتفاء الذاتي لجهة الخبرة والتكنولوجيا والموارد الضرورية، في دورة الوقود النووي..‏

من التطورات الأخيرة في المقاربة الإسرائيلية للمشروع النووي الإيراني، والذي يكاد ينفلت من النقاش العام من دون أن يأخذ حيزاً يستأهله فيه لدلالاته، هو إلغاء نقطة اللاعودة النووية الإيرانية من المطالعات الإسرائيلية، وهو ما أعلن عنه رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي يوفال شتاينتس مؤخرا، ووجد تعبيراته في التصريحات والتعليقات الإسرائيلية اللاحقة له.. إلى درجة أن رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي دان حالوتس، كاد أن يرحّل القنبلة النووية الإيرانية إلى العام 2012، بعد أن كان هو نفسه، ورئيس شعبة الاستخبارات الإسرائيلية زئيفي فركش، قد حددا في وقت سابق (قبل أيام من ذلك) أن شهر آذار/ مارس المقبل هو الموعد الأخير لنقطة اللاعودة الإيرانية، وذلك قبل أن يتحدد إسرائيلياً مصلحة إلغائها من السجال العام.. علماً أن الجميع في "إسرائيل" يقر بالإخفاق المعلوماتي استخبارياً بما يتصل بمركبات المشروع وتشعباته، بل أن البعض الإسرائيلي يجد تبريرات لهذا الإخفاق، في كشفه لإخفاقات الأجهزة الاستخبارية للدول المعنية الأخرى، وفي ذلك دلالات خاصة وكاشفة.‏

وإذا ما قُرئت المقاربة الإسرائيلية وتطوراتها الأخيرة، وجرى التوفيق بين تناقضاتها الظاهرية وترتيبها استدلالياً، لأمكن إدراك، أو توكيد، الموقف والتقدير الإسرائيلي والأفعال المقدّر أن تُسلك إسرائيلياً ـ أو لا تُسلك ـ في المرحلة القادمة:‏

لا يلغي نقطة اللاعودة الإيرانية عملية الإعلان عن إلغائها إسرائيلياً، إذ أنها تبقى واقعاً موضوعياً تتحقق مع تحقق شروطها المعروفة (أقله في مفهوم نقطة اللاعودة إسرائيلياً)، أي اكتفاء إيران ذاتياً من حيث الخبرات والإمكانيات لإنتاج الطاقة النووية أو السلاح النووي من دون مساعدة خارجية. ورداً إلى هذا المفهوم، يمكن القول ان هذه النقطة قد تحققت منذ فترة طويلة، إذ لا يبرز أن الإيرانيين غير مكتفي المدارك والقدرات والتقنية الموضوعية لدورة الوقود النووي من دون ارتباط تقني أو غير تقني بعامل خارجي.. ما يعني أن أصل التحديد الإسرائيلي لنقطة اللاعودة الإيرانية، وثباتها على فترة الـ"ستة أشهر" في السنوات القليلة الماضية، ما هو إلا تحديد سياسي يرتبط بالظرف والتطورات المتعلقة بالملف وسبل مواجهته، إضافة إلى تقديرات نتائج المفاوضات الإيرانية مع محاوريها الأوروبيين مؤخراً..‏

والإعلان عن إلغاء اللاعودة الإيرانية، يشير أيضاً إلى فقدانها دورها التحريضي كعامل تقريب لموعد نهائي أمام الأميركيين والأوروبيين لدرء الخطر الإيراني، إذ يظهر أن هناك ثباتاً أميركياً، لسبب أو لآخر، قد يكون مرتبطاً بتعقيدات الأوضاع الأميركية على الساحة العراقية وغيرها، في ترحيل نقطة اللاعودة الإيرانية وربطها بامتلاك القنبلة مادياً من قبل إيران، حيث يدور الحديث الأميركي عن نقطة لا عودة بالفعل وليس بالقوة، برغم المساعي المبذولة للحيلولة دون بدء عمليات التخصيب الإيرانية، كمرحلة أخيرة وشبه نهائية في دورة الوقود النووي الممهدة لاستخدامات أخرى غير سلمية.‏

يضاف إلى ذلك، أن التحديد السابق لنقطة اللاعودة من قبل الاستخبارات الإسرائيلية قبل إلغائها المشار إليه، والذي يتزامن مع موعد انعقاد جلسة محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية في شهر مارس/ آذار القادم للنظر بالموضوع النووي الإيراني، لا يبدو انه تحديد مهني للأسباب المساقة آنفاً، لكن دلالاته الخاصة تبقى حاضرة، وتحديداً فيما يتعلق بمنطلقاته التي أفضت إليه:‏

* أن "إسرائيل" لا ترى إمكانية واقعية لأية مقاربة عسكرية للمشروع النووي الإيراني، إن لجهة ضربة إسرائيلية خاصة، أو لجهة تشكيل ائتلاف عسكري من قوى مختلفة مع أو من دون مشاركة "إسرائيل" في الظروف الحاضرة والآماد المنظورة، أقله حتى تاريخ انعقاد مجلس محافظي الوكالة الذرية، وفي الفترة التي تليه أيضا.. فكل المعوّقات المعروفة لأية مباشرة عسكرية، إسرائيلية وغير إسرائيلية، تبقى قائمة ولم يطرأ عليها تغييرات.‏

* أن "إسرائيل" لا ترى بأن المفاوضات المزمع البدء فيها قريباً مع الأوروبيين قد تؤدي إلى نتيجة متوخاة، فالإيرانيون يتشبثون بموقفهم مع خطوات عملية فيما يتعلق بدورة الوقود النووي، فيما الأوروبيون يبثون إشارات ضعف واضحة وانكفائية، مع تواصل بحثهم عن حلول إبداعية مختلفة، كان آخرها عمليات تخصيب في روسيا لمصلحة إيران.. وإلا، لكانت "إسرائيل" قد تشددت على نقطة اللاعودة وتمسكت بها، وهو ما كان يمكّنها لاحقاً من تثميرها كنجاح إسرائيلي، بأدوات غير إسرائيلية..‏

* إلغاء نقطة اللاعودة يُجنب متخذي القرار الإسرائيلي إحراجاً داخلياً مرتبطاً بتجاوز إيران لهذه النقطة من دون إجابات وتصدّ إسرائيلي، الأمر الذي سيدفع "إسرائيل" في حينه نحو احد خيارين: إما الإقرار بضرورة التعايش مع إيران نووية وترتيب أوضاع الردع على أساسه، وهو خيار تراجعي بامتياز، وإما اعتماد المواجهة على محدودية نجاعتها. وكلا الخيارين محرجان جدا للقيادة الإسرائيلية.. برغم أن الإشارات الإسرائيلية المبثوثة مؤخراً، تشير إلى أن الخيار الأول هو الخيار الأكثر معقولية.‏

تبقى الإشارة إلى أن الحراك العملي الإسرائيلي للفترة الممتدة حتى شهر آذار القادم، وفيما بينها أيضا، خاصة مع تعدد النقاط الزمنية المرتبطة بالقرار الإيراني الاخير باستئناف العمل بالابحاث النووية في المنشآت الإيرانية، يُقدّر أن يتركّز على محاولة إعادة ترميم صورة المركب الثاني المفترض أن يتحرك في موازاة المفاوض الأوروبي ويردفه بالقوة، أي صورة السيف العسكري المصلت، المفترض به أن يعالج المسألة النووية من خلال الضربة العسكرية في حال فشلت المفاوضات.. وخاصة أن اصل الضربة العسكرية أصبح مشبعاً بالإشارات الدالة على عدم نجاحها، ما أدى إلى تخلخل صورتها بشكل كبير لدى الإيرانيين، وبالتالي يفترض بـ"إسرائيل" أن تقوم بكل ما يلزم لترميم ما يفترض انه يشكل حائلاً دون الضربة العسكرية ونجاحها.. أي أننا سنشهد تصعيداً إسرائيلياً مدروساً، لا يرتدع معه المسؤولون الإسرائيليون، وخاصة العسكريين، عن لجم طلعاتهم العلنية للحديث عن مستجدات قدرة لديهم تستطيع معالجة مكامن القوة الإيرانية..‏

في المحصلة، يبقى الموضوع النووي الإيراني، برغم غياب أريئيل شارون والتفلت النظري للمستوى العسكري والأمني في الكيان الإسرائيلي في قراراته، بنتيجة ضعف إيهود أولمرت ومكانته الأمنية المنخفضة في الكيان الإسرائيلي، يبقى موضوعا ـ من ناحية مادية ـ فاقداً للخيارات الناجعة التي يمكن لـ "إسرائيل" ان تسلكها، إذ ان سلوك أي خيار عسكري أو امني يرتبط بنتيجته المتوخاة منه، ومع فقدان هذه النتيجة سيبقى صانعو القرار الإسرائيلي بانتظار قرارات الاخرين المرتبطة أيضا بفرصهم وظروفهم، مع حراك إسرائيلي تحريضي في العلن وفي السر أيضا، ومع الحرص على عدم اعلان مكامن الضعف ومحدودية تفعيل وإدارة مصادر القوة لدى "إسرائيل".. إذ لا مصلحة أمام الكيان الإسرائيلي بالاقرار بالحجم الكلي للقدرة الإسرائيلية الفعلية المتأخرة وغير المتناسبة مع حجم المسألة النووية الإيرانية وتعقيداتها.. فهو واقع تحذر "إسرائيل" من الإقرار العلني به.‏

مقالات/ العدد 1145 ـ 20 كانون الثاني/ يناير 2006‏

2006-10-28