ارشيف من : 2005-2008
سورية وتصريحات خدام:قراءة في التوقيت والتداعيات

خورشيد دلي ـ دمشق
أثارت تصريحات عبد الحليم خدام النائب السابق للرئيس السوري ردوداً عاصفة داخل سورية، وفي الوقت نفسه أثارت تساؤلات حول توقيت هذه التصريحات وتداعياتها وإمكانية استغلالها من قبل لجنة التحقيق الدولية في قضية التحقيق باغتيال الرئيس الحريري، خاصة بعد ان طلبت اللجنة المذكورة عقب هذه التصريحات مقابلة الرئيس السوري بشار الأسد.
بعيدا عن الحملة التي جرت في مجلس الشعب السوري والتي تتلخص في اتهام خدام بالخيانة العظمى، ومن ثم قرار حزب البعث العربي الاشتراكي طرده من صفوفه، وكذلك قرار السلطة التنفيذية (الحكومة) محاكمة خدام في قضايا فساد... بعيدا عن هذه الردود الرسمية تقف الأوساط السياسية السورية عند مستويين من التأثير لتصريحات خدام.
الأول: داخلي إذ هناك إجماع في الأوساط السورية على ان تصريحات خدام لن تؤثر على الوضع الداخلي السوري على الرغم من انه كان يشغل منصبا رفيعا وحساسا لسنوات طويلة، وكان يدير العديد من الملفات المهمة الداخلية والإقليمية (لبنان - العراق), ولعل مصدر هذا الإجماع يعود إلى فقدان المصداقية تجاه تصريحات خدام, فالرجل الذي تحدث طويلا عن الفساد لا يمكن ان يضع نفسه بعيدا عن هذه الظاهرة في وقت يصفه البعض بأنه يشكل رأس الفساد في البلاد ويعدون (منجزاته الشاملة) في هذا المجال, وكذلك فإن المسؤول الذي تحدث عن أخطاء النظام لا يمكن للمرء رؤية هذه الأخطاء وتشخصيها بعيدا عن شخصية خدام ودوره المحوري فيها نظرا للمسؤوليات الهامة التي شغلها لقرابة أربعة عقود متتالية، ومنها الملف اللبناني لفترة طويلة وحساسة, والرجل الذي تحدث عن وجود عقبات في وجه الإصلاح لا يمكن للسوري ومن مختلف التيارات السياسية ومشاربها ان يغفل دور خدام المباشر في هذا المجال، بل البعض يحمله المسؤولية المباشرة عن إغلاق العديد من المنتديات السياسية والثقافية التي انتشرت في السنوات الأخيرة، وكذلك اعتقال مجموعة من الشخصيات التي عرفت بـ"ربيع دمشق"، وما زالت في السجن... وعليه ترى هذه الأوساط ان تصريحات خدام بشأن الوضع الداخلي لن تتعدى ان تكون قنبلة صوتية على المستوى الداخلي, بل يرى البعض في هذه التصريحات مدخلا إيجابيا لمحاربة الفساد بقوة من خلال شروع السلطات في محاربة المفسدين من الشخصيات الكبيرة دون رحمة، وعدم التستر على أحد مهما كان موقعه في السلطة, كما ان تصوير البعض حالة خدام بأنه انشقاق عن النظام مسألة تفتقر إلى الدقة نظرا إلى ان الرجل في بنية النظام لم يعد يمثل إلا شخصه، وفي المحصلة فإن انتقاد خدام لمرحلة سياسية يشكل قطيعة سياسية مع خدام نفسه الذي طرح نفسه كمنظر للفكر القومي والحزبي الذي طرحه وتبناه طويلا.
الثاني: بعكس الأول إذ ترى الأوساط السورية ان الجانب الأخطر في تصريحات خدام يكمن في إمكانية استغلال بعض القوى الدولية وخاصة الولايات المتحدة وفرنسا لهذه التصريحات ضد سورية من خلال دفع لجنة التحقيق الدولية إلى طلب المزيد من الطلبات التعجيزية من القيادة السورية، وصولا إلى حشرها في الزاوية الحرجة ووضعها أمام خيارين لا ثالث لهما: أي إما دفعها إلى التنازل عن سياستها ومواقفها وصولا إلى حقوقها الوطنية في الصراع مع "إسرائيل"، والقبول بتسوية مفروضة عليها، أو وضعها أمام خيار الصدام مع الحالة الدولية التي تتأسس في مجلس الأمن الدولي في ضوء القرارين الدوليين 1636 و1644 وهو ما ليس لسورية قدرة على تحمله حتى النهاية نظراً لقدرتها المحدودة أمام هذه الحالة الدولية، وخاصة ان القرارين الدوليين المذكورين اعتمدا الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، أي إمكانية استخدام القوة.
في الواقع, الجانب الخطر في تصريحات خدام انها جاءت في توقيت دقيق وصعب لسورية, فبعد شبه انفراج في العلاقة السورية بالدوائر الدولية التي أدرجت قضية التحقيق في اغتيال الحريري على "أجندتها" السياسية تجاه المنطقة، جاءت هذه التصريحات لتصب النار على الزيت من جديد، وخاصة ان تصريحات خدام أشارت بشكل مباشر إلى رأس الدولة السورية هذا من جهة, ومن جهة ثانية فإن هذه التصريحات تكشف عن وجود قوى دولية وحتى لبنانية لا تريد تسوية خلافاتها مع القيادة السورية, بل ان البعض لا يستبعد وجود صراع فرنسي ـ أميركي حول هذا الأمر، ويرى هؤلاء ان تصريحات خدام كانت سياسة فرنسية بامتياز لمنع حصول تسوية ما مع دمشق التي تعيش حالة عداء مع حلفاء فرنسا في لبنان, هؤلاء الحلفاء الذين بنظر دمشق والعديدين في المنطقة باتوا يركبون الحالة الدولية من أجل دفع لبنان إلى موقع يفقد فيه دوره الإيجابي على صعيد قضية الصراع مع "إسرائيل"، والانخراط في المشاريع التي تستهدف إعادة ترتيب المنطقة من جديد، وهو الأمر الذي لا تجد دمشق فيه إمكانية لبناء سياسة مشتركة, وعليه ترى الأوساط السورية ان خدام انضم إلى صف المعادين لسورية بعد ان وضع نفسه كـ"الشاهد الملك" في قضية التحقيق في اغتيال الرئيس الحريري، ويؤكد هؤلاء رؤيتهم هذه بأن ما جاء في التقرير الأول لميليس مطابق تماماً لما أدلى خدام به من معلومات ووقائع.
وفي النهاية لا يمكن قراءة تصريحات خدام من حيث التوقيت والمضمون والأهداف بعيدا عن سياق ما سبق, وإذا كان الأمر سيزيد من حلقات الضغط على دمشق ويقلل من إمكانية المناورة السياسية أمامها، فإنها باتت تجد نفسها بين مأزق التعاون مع لجنة التحقيق حتى النهاية وبين خيار الصدام مع المعادلة الدولية كما تخطط لها بعض القوى الإقليمية والدولية, ومن كل هذا يبقى الرهان والسؤال حول قدرة دمشق في الخروج من نفق المرحلة المقبلة، التي وصفها ميليس بأنها ستكون سورية بأقل الخسائر اعتماداً على حنكتها السياسية ودور بعض القوى الإقليمية والدولية التي تحرص على الاستقرار في المنطقة عبر تحقيق تسوية ما من الواضح ان الظروف لم تنضج معالمها بعد.
الانتقاد/ اقليميات ودوليات ـ العدد 1143 ـ 6 كانون الثاني/ يناير 2006