ارشيف من : 2005-2008

دونكيشوتية أطلسية

دونكيشوتية أطلسية

لا بمعناها الذي قصده سرفنتس عندما أبدع دون كيشوت كمحاولة أخيرة ويائسة قامت بها قيم النبل للصمود في وجه الحداثة الزاحفة بقوة لا تقاوم على أجنحة آلة تجسدت في الأذرع العملاقة لعصر الطواحين، وما تعنيه من طحن وسحق وتهشيم وتدمير، بل بمعناها الرائج كـ "عنترية فارغة"، يبدو أن الدونكيشوتية قد اصبحت سمة أساسية من سمات هذا العصر الغربي الموشك على الأفول مع أذرعته ومذنباته المنتشرة على كل الصعد، من الدولي إلى المحلي، مروراً بالإقليمي.‏

فإذا ما اقتصرنا على ما يجري على مستوى رأس الهرم، أميركا، نلاحظ دونكيشوتية التهديدات الفارغة تسير جنباً إلى جنب مع التورط في العراق وأفغانستان، والعجز عن تحقيق تقدم على مستوى الملفات الساخنة الأخرى، إضافة إلى الأزمة التي بدأت تعصف بحكم المحافظين الجدد...‏

وغير بعيد عن الرأس، أي على مستوى الحلف الأطلسي، نلاحظ الدونكيشوتية الفارغة وهي تسير جنباً إلى جنب مع مسلكية يمكن وصفها بأنها تعبير عن جنون العظمة الذي يظل جنوناً بلا عظمة. بدليل ما فعله وزراء دفاع بلدان الحلف الستة والعشرين في اجتماعهم الذي عقدوه في بروكسل يوم الخميس (15/06/2006).‏

نقطة الانطلاق كانت مقتل الزرقاوي وإحساس الوزراء بأن الغرب قد حقق انتصاراً من نوع الانتصار على الشيوعية، وبأن العالم بات على وشك السقوط في يد الغرب كالثمرة الناضجة. لكن لا بد لقطف الثمرة من استعراض لتوليد الإحساس بالقوة: قرر المجتمعون تحديد هدف هو تحقيق القدرة على التدخل في أي مكان من العالم عبر تعبئة 300 ألف جندي لشن ثماني حروب في وقت واحد. اثنتان على نطاق واسع في كل منهما 60 ألف جندي، وستة على نطاق "متوسط" في كل منها 30 ألف جندي. وللجدية، أرفقوا القول بالفعل، لكن الفعل جاء فاضحاً لطول المسافة بينه وبين القول.‏

فمن جهة، جاءت المناورات العسكرية الضخمة التي أطلقها الحلف الأطلسي في البحر الأسود، مطلع الأسبوع الحالي، أكثر شبهاً بالفضيحة: تحت ضغط الشارع الذي هب لطرد الأميركيين من أوكرانيا، أجبر جنود البحرية الأميركية الذين تمركزوا، ضمن إطار المناورات، في شبه جزيرة القرم، على مغادرة المكان بالسرعة القصوى. ومن جهة أخرى، تم اختيار أفغانستان، أضعف بلد في العالم، كميدان لتجريب قوة أقوى قوة في العالم: تقرر رفع عدد جنود الأطلسي الموجودين هناك للحلول محل القوات الأميركية المنهكة، من تسعة آلاف، حالياً، إلى خمسة عشر ألفاً، في أواخر تموز/ يوليو المقبل، تمهيداً لرفعها إلى خمسة وعشرين ألفاً قي تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل. ولكن ذلك لم يتم إلا فضائحياً، بعد أخذ ورد شديدين تطلبهما إقناع هولندا بإرسال مئتين من جنودها إلى المعمعة الأفغانية، وما أنتجته وستنتجه من فضائح متصاعدة.‏

وبالعودة إلى الحروب الثماني، لم يقتصر الحديث عن تعبئة الثلاثمئة ألف جندي، بل ذهبت الدونكيشوتية الفارغة إلى حد الازدهاء بما يمتلكه الأطلسي من قوات "احتياطية" (لاحظوا الجنود الأميركيين الذين ينتحرون، والجنود البريطانيين الذين يختبئون فراراً من الالتحاق بالخدمة في العراق وأفغانستان) يقدر عددها بمليون وأربعمئة ألف جندي!‏

حسناً. لكن التعبئة تحتاج إلى أموال. ومن هنا طرحت في اجتماع وزراء الدفاع مسألة تخصيص 2 بالمئة من الناتج الخام في البلدان الأعضاء لموازنات الدفاع. لكن أكثرية الحاضرين ردوا بتقطيب الجبين لأن ذلك سيقتطع أموالاً جمة من موازنات الغذاء والترفيه والصحة والتعليم وغيرها!‏

وبقيت مشكلة التمويل بلا حل، تماما على سبيل المثال كالمشكلة التي يطرحها نقل الجنود والمعدات الأطلسية داخل أفغانستان. إذ عند كل عملية، يضطر الحلف الأطلسي بسبب افتقاره إلى وسائل النقل المناسبة، إلى هدر وقت ثمين في استئجار طائرات أنطونوف أوكرانية! وكل ذلك غيض من فيض دونكيشوتية الأطلسي الفارغة، ومن دونكيشوتية ما فوق الأطلسي وما تحته من قوى توشك على الأفول.‏

ع.ح‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1167 ـ 23/6/2006‏

2006-10-28