ارشيف من : 2005-2008

إيران ـ أميركا : إمكانية الحوار النووي بين التكتيك والاستراتيجيا

إيران ـ أميركا : إمكانية الحوار النووي  بين التكتيك والاستراتيجيا

طهران ـ محمد عليق‏

"الملف النووي الإيراني يمر بمرحلة شديدة الحساسية".. اعتاد المتابعون لهذا الملف على سماع وقراءة هذه العبارة, التي أضحت تقليدية وفقدت الكثير من أهميتها, منذ ثلاث سنوات وبشكل متكرر في التحليلات والتصريحات الغربية خاصة، أو المترجمة عنها في العالم العربي.‏

بعد مرور ثلاث سنوات وتسعة أشهر على بداية الخطة الأميركية الرامية الى التهويل والمبالغة حول الملف النووي الإيراني واستخدام الوسائل السياسية والاعلامية والاقتصادية والأمنية المختلفة لإيجاد إجماع دولي ضد إيران باعتبارها خطرا نوويا محتملا وركنا أساسيا في محور الشر، للوصول الى عزلها دوليا وابتزازها ثم إخضاعها لإرادة المحافظين الجدد في واشنطن، وبعد سلسلة من الإخفاقات الأميركية في هذا الملف, وبعد طرح أميركا وحلفائها لما سُمي رزمة الحوافز الايجابية على طهران, كيف تبدو صورة العلاقة الأميركية الإيرانية المفترضة؟ وما حقيقة العوامل والتغييرات الى استجدت على صورة الصراع المستمر منذ 27 سنة؟‏

لا بد من الاشارة هنا الى ملامح تغيير تكتيكي عند المنظرين السياسيين لمحافظي ادارة بوش، يقضي باتباع سياسة ضغوط متوازية الابعاد بدل ضغوط البعد الواحد في التعامل مع إيران، أي عدم التركيز على خطاب واحد هو التهديد بعمل عسكري وعقوبات مجلس الأمن، بل توسيع دائرة التعامل ليشمل المناورات السياسية وسلاح المفاوضات والمبادرات الدبلوماسية كرزمة الحوافز وخطاب المفاوضات والحوار وتقوية الأبعاد والمحاور الهادئة نسبيا (كإعادة تحريك منظمة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة في العراق بعد ان كانت قد وضعت على لائحة الارهاب، وتم ضبط حركتها في العراق وأوروبا سابقا لتعقد مؤتمرا وتنسق مع بعض المجموعات العراقية في محاولة للضغط ولإضعاف الموقف الإيراني في مفاوضات إيرانية أميركية حول الشأن العراقي كما كان مقررا) على سبيل المثال او الاجراءات العسكرية الأميركية السرية في جنوب العراق وعلى الحدود الإيرانية في منطقة الفاو الاستراتيجية، التي كانت "الانتقاد" قد أشارت اليها سابقا، وتتمثل في بناء قاعدة عسكرية وأمنية هي الأكبر في العراق.. وكذلك محاولات اثارة الفتن القومية داخل إيران بين الآذريين والعرب والفرس، والتي أكد القادة الإيرانيون التنبه اليها وإفشالها.‏

بعض المحللين الإيرانيين أشاروا الى تأجيل أميركي للضغوط والتهديدات المباشرة في محاولة لتسوية بعض الملفات العالقة في العراق أولا، والتي عبرت عنها كوندوليزا رايس بـ"آلاف الأخطاء"، والتي كان من نتائجها انخفاض قياسي لشعبية الرئيس الأميركي وحليفه البريطاني المطيع وفضائح التعذيب ورحلات "السي آي إيه" في أوروبا وغيرها، مما يفترض ان يناقشه رؤساء مجموعة (5 + 1) في فيينا وسط تظاهرات أوروبية ضد سياسات أميركا وحضور بوش في فيينا وسط إجراءات أمنية قلّ نظيرها.‏

وتأتي هذه الوقائع وسط انقسامات في مجموعة (5 + 1) حول التعامل مع الملف النووي، كان أبرزها ما أشار اليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد لقائه الرئيس الإيراني في قمة شانغهاي من موقف روسي مؤيد لاستمرار عمليات تخصيب اليورانيوم داخل إيران، معارضا بذلك الشرط الأميركي بوقف التخصيب لمتابعة الحوار.‏

الأميركيون لم يجدوا الجواب المقنع لسؤال أوروبي وروسي وصيني حول الأضرار الجسيمة التي ستلحق بهم اقتصاديا اذا تابعت أميركا سياسة التهديد، التي كان آخرها تصريحات بوش المنذرة بتشديد العقوبات على إيران ما لم تقبل رزمة الحوافز.. غيرهارد شرودر المستشار السابق لألمانيا والرئيس الحالي لهيئة المستثمرين في مشروع خطوط نفط شمال أوروبا ـ روسيا، حذر في مؤتمر استثماري عُقد في موسكو الأسبوع الماضي من أي تصعيد اميركي ضد إيران، متوقعا ان يقفز سعر برميل النفط الى ما فوق الـ100 دولار إذا قامت أميركا بأي اجراء استفزازي يعيق الحوار السلمي حول الملف النووي الإيراني. والجدير بالذكر ان حجم التبادل التجاري السنوي بين ألمانيا وإيران يتعدى الـ4.8 مليار دولار، وبين روسيا وإيران 8 مليارات، فيما يصل الى 100 مليار دولار مع الصين التي تعتمد بشكل اساسي على التعاون مع إيران لتأمين الطاقة لاقتصادها القوي.‏

بالرجوع الى ملف العلاقة المتوترة تاريخيا بين أميركا وإيران، ينصح وارن كريستوفر ـ وزير خارجية أميركا في حكومة بوش الأب، والمفاوض الأميركي في أزمة الرهائن الشهيرة ـ الحكومة الأميركية الحالية بأن تقوم بفهم دقيق للمباني الثقافية لإيران، ومحاولة الوصول الى ما يشبه اتفاق الجزائر ـ الذي أنجزه كريستوفر مع المفاوضين الإيرانيين لإنهاء أزمة الرهائن ـ بدل تقديم حوافزها التجارية "البازارية"، مستعيرا الكلمة الفارسية للسوق. وفي مقالة له في "نيويورك تايمز" يأسف كريستوفر لأن الأوروبيين بدل ان يلعبوا دور الوسيط بين إيران وأميركا للوصول الى علاقة متوازنة، كانوا "أداة" في يد الإدارة الأميركية ومندوبا لإيصال تهديداتها الى إيران، ففقدوا بذلك مصداقيتهم وأهليتهم للعب دور إيجابي كهذا.‏

يتذكر الإيرانيون وخاصة قدامى دبلوماسيي الخارجية، كيف ان إدارة ريغان برغم كل عنجهيتها وحصارها للدولة الإيرانية الفتية عبر حربها المفروضة عليها، قد فوجئت بالانتصارات الإيرانية في"الفاو"، وقررت ان تدخل في مفاوضات سرية مع "إيران القوية".‏

اليوم ـ ومع اختلاف الأوضاع والظروف ـ فإن فكرة "إيران القوية" تتردد في أوساط الإدارة الأميركية بعد فشل السياسات السابقة والتورط الأميركي عراقيا وأفغانيا، وضرورة الدخول في مفاوضات مباشرة والأسف على إضاعة فرص سابقة للحوار المباشر، كالتي كشفت مؤخرا عنها أوساط إعلامية ودبلوماسية غربية، عن مساعٍ حوارية بين طهران وواشنطن عام 2003 قامت الإدارة الأميركية بتجاهلها وإفشالها، لتضطر حاليا الى استجداء المفاوضات مع إيران بعناوين مختلفة، أهمها التعاون الإيراني في العراق لإحلال الأمن والملف النووي.‏

في طهران لا تجد من يثق بالنيات الأميركية او بتغيير جدي في النيات، لأن لا توبة للذئب الا بالموت كما يقول المثل الإيراني. ولكن القادة الإيرانيين قد لمسوا مرارا النتائج والانتصارات عبر سياسة الثبات والتدبير والنفَس الطويل.‏

"لسنا على عجلة من أمرنا لإعطاء وجهة نظرنا واقتراحاتنا حول رزمة الحوافز، التي أصلا لم تتضمن مهلة زمنية".. كما صرح منوشهر متكي وزير الخارجية الإيراني، "بل إننا ندرسها بجدية وبتأنٍ.‏

المرونة الظاهرة في رزمة الحوافز تبدو إجراء تكتيكيا شديد السطحية يمكنه ان يمنع انفراط عقد التعاون بين دول (5 + 1)، ولكنه بالطبع لن يغير الاستراتيجية الأميركية، وإن كانت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة صرحت بأنه لا مناص من قبولنا بإيران نووية.‏

جريدة "يو أس توداي" الأميركية تسأل: هل يمكن لبوش ان يثبت مقدرته على إدارة حوار حول الملف النووي الإيراني من دون التهديد باستخدام القوة؟‏

تهديدات بوش الأخيرة أجابت عن السؤال.‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1167 ـ 23/6/2006‏

2006-10-28