ارشيف من : 2005-2008
من الخرطوم إلى باماكو: أميركا هي المشكلة

نحو أربعين من رؤساء الدول الإفريقية التقوا الاثنين والثلاثاء الماضيين (23و24/1/2006) في الخرطوم في إطار القمة السادسة للاتحاد الإفريقي الذي تم إنشاؤه عام 2002 بغية رفع مستوى الديموقراطية وحقوق الإنسان والتنمية في القارة السوداء. شعارات طالما استأثرت، إن بالنسبة للسودان أو لغيره من بلدان العالم الثالث، بالاهتمام الدولي، دون أن تؤدي إلى شيء غير استمرار المهزلة المتمثلة بالمزيد من توظيف الشعارات في تأبيد المشكلات الكبرى المزروعة من قبل الغرب لخدمة أغراض التدخل والهيمنة والاستغلال... تشهد على ذلك بشكل صارخ جميع المداولات والتصريحات والأحداث التي أحاطت بالقمة ونفذت إلى اجتماعاتها وإدارة أعمالها.
ففي حين يحتار المراقب من أين يمكن أن يكون البدء في طرح مشكلات القارة المدمرة بالحروب والفساد والأمراض والفقر، وكلها مشكلات تتم رعايتها من قبل الجهات الدولية الممسكة بخناق العالم، كانت مشكلة رئاسة الاتحاد الإفريقي للسنة المقبلة هي الوحيدة التي خيم ظلها على أجواء القمة. وقد جرت العادة، منذ تأسيس الاتحاد كبديل لمنظمة الوحدة الإفريقية، على أن تكون رئاسة الاتحاد من نصيب رئيس البلد المضيف، ما يعني أن الرئيس السوداني عمر حسن البشير هو الذي يفترض به آلياً أن يضطلع بهذه المهمة. ولهذا السبب بالذات، لم يترشح أحد من الرؤساء الأفارقة لهذا المنصب.
لكن العادات والأعراف، بغض النظر عن وجاهتها أو عدم وجاهتها، اصطدمت هذه المرة باعتبارات السياسة الدولية، واهتزت على خلفية المساعي الأميركية والغربية التي تبذل منذ سنوات من أجل تطويق السودان وضربه في سياق هو ذاته السياق الذي تم فيه احتلال العراق وتصعيد الضغوط على إيران وسوريا والمقاومتين اللبنانية والفلسطينية. فقبل انعقاد القمة، ومع بدء توافد الرؤساء إلى الخرطوم، كان الغرب - لا إفريقيا - مصدر جميع الأصوات التي انطلقت أولاً للتشويش على القمة وعلى الاتحاد الإفريقي من باب التشكيك بمشروعية الرئاسة السودانية. وكان أول هذه الأصوات أميركياً، حيث اعتبرت واشنطن أن الرئاسة السودانية تطرح مشكلة كبرى بالنظر إلى وجود سبعة آلاف جندي إفريقي أرسلهم الإتحاد لحفظ السلام في دارفور. وفي الوقت نفسه، انبرت منظمات الدفاع عما يسمى بحقوق الإنسان للاعتراض على الرئاسة السودانية معتبرة أن ذلك من شأنه أن يعيق سير العملية الديموقراطية في القارة، ويحول دون تحسين صورة إفريقيا.
ومن جهتها تقاطرت عشرات المنظمات غير الحكومية إلى الخرطوم وبدأت بتنظيم أنشطة دعائية مضادة للسودان على خلفية الصراع في دارفور. وعندما قامت الشرطة السودانية بتوقيف خمسة "ديبلوماسيين" غربيين كانوا يشاركون في اجتماع عقدته المنظمات المذكورة، وعلى الرغم من إطلاق سراحهم بعد ساعتين من الإجراءات الشكلية، قامت الدنيا ولم تقعد وانبرى سفير الاتحاد الأوروبي في الخرطوم، كنت داجرفيلد، ليصف الحدث بأنه "خطوة إلى الوراء" بعد التحسن الذي طرأ أخيراً على مستوى حرية الحركة والتعبير في السودان. وللتدليل على حقيقة المواقف الغربية من إفريقيا، وعلى النظرة الاستعلائية والاستخفافية إلى إفريقيا ومشكلاتها، لم يتردد أحد الديبلوماسيين الغربيين عن التعليق على القمة بقوله بأن "الخبر الجديد الوحيد حول القمة هو ما سوف لن يحصل فيها: البشير لن يكون رئيساً للاتحاد الإفريقي"!.
وقد لاحظ المراقبون أن السودانيين قد تصرفوا بوعي تجاه هذه المشكلة المفتعلة. فقد صرح الرئيس البشير أن المهم هو نجاح القمة قبل كل شيء، معرباً بشكل مباشر عن عدم إصراره على التمسك بحقه العرفي في رئاسة الاتحاد. ومع هذا، وعلى الرغم من المداولات التي ظهرت على السطح حول طرح الرئيس الكونغولي دنيس ساسو نغيسو كمرشح بديل أو التمديد لرئاسة النيجيري أولوسيغون أوباسانجو، ما يعني أن مسألة الرئاسة لا تطرح مشكلة كبرى، على ما يريده الأميركيون، فإن الإرادة الأميركية قد فعلت فعلها بلا شك في امتناع عدد من الزعماء الأفارقة وفي مقدمتهم العرب طبعا عن حضور القمة، وخصوصاً مع بدء الحديث عن وجود خطر حقيقي يهدد بتفكك الاتحاد الإفريقي.
هل يعني ذلك أن إفريقيا محكوم عليها بالمضي قدماً في التخبط تحت إشراف وبعناية القوى الاستعمارية القديمة والجديدة والقوى المحلية المتواطئة؟ هذا ما لا يقوله المشرفون على المنتدى الاجتماعي العالمي الذي أنشئ قبل سنوات بمبادرة القوى المناهضة للعولمة الليببرالية المتوحشة التي يقودها منتدى دافوس الاقتصادي. إذ بعد الأنشطة التي قادها المنتدى الاجتماعي في بورتو آليغري وبومباي، فتح المنتدى جبهته الجديدة في إفريقيا، وبالذات في باماكو، عاصمة مالي، حيث احتشد عشرات الألوف من الأفارقة وغير الأفارقة المناهضين للعولمة، بين الخميس والإثنين، ليطلقوا حملتهم من أجل إفريقيا، بدءاً بالمديونية وانتهاءً بالماء والصحة والتعلُّم، بعد المرور بالحروب ومشاكل اللجوء والهجرة والتنمية والفقر والتجارة الخارجية والقطن الإفريقي المهدور بسبب المساعدات الزراعية الأميركية والأوروبية. وبعد باماكو، يقول المشرفون على المنتدى الاجتماعي بأنهم سينتقلون بأنشطتهم إلى كراكاس، ثم إلى كاراتشي، قبل أن يعودوا لرفع أعلامهم مجدداً، عام 2007، في العاصمة الكينية نيروبي. هل يعني ذلك أن رياحاً شبيهة برياح أميركا الجنوبية قد بدأت تتجه نحو إفريقيا؟
ع.ح