ارشيف من : 2005-2008

"تحالف الحضارات": وجه آخر لـ"صراع الحضارات"

"تحالف الحضارات": وجه آخر لـ"صراع الحضارات"

ماذا بعد مسلسلات الجرائم المرتكبة بحق العرب والمسلمين، لو مرت الإساءة إلى الرسول الأكرم (ص) بالرسوم الكاريكاتورية من دون أن تشكل تاريخاً يختلف ما قبله عما بعده، لجهة إثبات المسلمين قدرتهم على ردع المعتدي وعلى تأكيد وجودهم كقوة قادرة على صيانة ذاتها ومقدساتها وحقوقها؟‏

لا شك في أن ما سيحدث هو تراكم المزيد من مشاعر الإحباط وخلق المزيد من الاستعداد لتقبل التراجعات والهزائم، خصوصاً إذا ما جاء حدث من نوع الاعتداء على المقام المقدس في سامراء ليهدد في عز تصاعد موجة الغضب الإسلامي على الرسوم المسيئة، بإثارة فتنة طائفية مقيتة من شأنها أن تضعف أواصر الوحدة التي تعززت عبر الرد على الرسوم المذكورة.‏

وماذا، بدلاً من الاستمرار في توجيه أصابع الإدانة إلى الدانمرك وغيرها من الدول والجهات الضالعة في قضية الرسوم، لو انقلب المشهد ووُجّهت أصابع الإدانة في الاتجاه المعاكس، وسط دعوات من نوع تشكيل وفود عربية ـ إسلامية للذهاب إلى كوبنهاغن وغيرها من العواصم المسيئة بهدف التحاور وتقريب وجهات النظر، أو حتى بهدف "التحالف"؟ لا شك في أن ذلك سيضيف إلى الإحباط إحباطاً أشد وطأة وأفدح ضرراً.‏

فرضيات من هذا النوع لا بد من أن تكون وراء اختيار هذه اللحظة بالذات لعقد الاجتماع الثاني الذي عقدته في الدوحة عاصمة قطر، المجموعة "الرفيعة المستوى التابعة للأمم المتحدة" تحت عنوان "تحالف الحضارات"، الذي أطلق في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي بمبادرة إسبانية مدعومة من تركيا. تمثلت في المجموعة كل من الأمم المتحدة ومنظمة العالم الإسلامي والجامعة العربية، إضافة إلى البلد المضيف وكل من إسبانيا وتركيا. وتواترت في المداخلات جميع المصطلحات المشحونة بالمعاني المنحازة التي تعودنا على سماعها خلال السنوات الأخيرة التي شهدت نهوضاً نوعياً غير مسبوق في العالم الإسلامي ضد الهيمنة الأميركية ـ الصهيونية: حوار على أساس أن القرآن دعوة للحوار، واعتدال على أساس أن الإسلام دين الوسطية والاعتدال، ومصالحة على أساس أن الصلح سيد الأحكام، وإقامة جسور التفاهم بين الشرق والغرب على أساس أن الصلة خير من القطيعة.. وكل ذلك وصولاً إلى بيت القصيد: "تحالف الحضارات". والواضح أن فكرة هذا التحالف تحاول أن تطرح نفسها نقيضا لفكرة "صراع الحضارات" التي أطلقها الغرب قبل سنوات على لسان صمويل هنتنغتون، والتي سمحت للرئيس بوش بعد أن قدم فيها الإسلام على أنه الخطر الحالي والمستقبلي على الغرب بعد زوال الخطر السوفياتي، بتأمين غطاء أيديولوجي لحربه على الإسلام، وهو الغطاء الذي ما زال قائماً وفاعلاً بعدما ظهر زيف المبررات التي تمثلت بدكتاتورية صدام حسين ودماره الشامل.‏

لا شك ابتداءً، في أن فكرة التحالف خير وأبقى من الصراع، ولا شك أيضاً في أن الإسلام هو من أطلق فكرة "الكلمة السواء"، لكن المشكلة أن فكرة التحالف المطروحة تبدو أكثر قرباً من معنى التحالف بالشكل الذي نشهده في التحالف الدولي في الحرب على العراق، منها إلى تحالف حقيقي بين الحضارات. فهذا التحالف الأخير يستلزم شروطاً وتمهيدات أقلها تصفية الخلافات القائمة مع ما يستتبعها من رد الحقوق والتعويض على المتضررين، ومن ثم وضع أسس للحوار يمكن انطلاقاً منها التوصل إلى تفاهمات من شأنها أن تقود إلى صيغة للتحالف. صحيح أن اجتماع الدوحة قد كلف لجنة بتحديد المشكلات القائمة بين الإسلام والغرب وإيجاد الأدوات الناجعة لحلها خلال مهلة تصل إلى أواخر الخريف القادم، لكن المريب ـ وجميع الخطب التي أُلقيت في الاجتماع تحدثت عن عدم الثقة بين الإسلام والغرب كأمر يجب التخلص منه ـ أنه قبل تحديد المشكلات، بدأ الاجتماع برسم معالم الطريق نحو الحلول: الوقف المباشر لأعمال التظاهر ضد الرسوم المسيئة، التصدي للكراهية، مقاومة التحريض، رفض ردود الفعل المفرطة، نبذ العنف والمشاعر الملتهبة.. وصولاً على ما يبدو إلى تشكيل وفد دولي عربي إسلامي يقوده الحاخام آرثر شراير ـ محفوفاً ببعض رجال الدين المسلمين ـ إلى كوبنهاغن لطلب الصفح عن الإساءات التي ألحقتها الجماهير الغاضبة بالمصالح المادية والمعنوية الدنمركية! لينتهي الأمر باكتشاف أن "تحالف الحضارات" ليس غير "صدام الحضارات" نفسه، ولكن بنفير أكبر ينضم فيه المعتدلون والمسامحون والوسطيون إلى الحلف الغربي ـ الصهيوني لمكافحة الإرهاب والتطرف والعنف والتشدد..‏

ولضمان عدم تكرار مثل هذه الأجواء ـ لم ترد كلمة إدانة واحدة للرسوم، ربما بسبب قداسة حرية الغربيين في التعبير عن الرأي، ما عدا إعراب كوفي أنان عن أسفه لما أحدثته الرسوم من ردود أفعال ـ أولى المتحدثون اهتماماً خاصاً بدفع الحوار بحيث يصل إلى "المخيلة الشعبية". بتقديري أن هذه العبارة تستحق اهتماماً مختلفاً، مساءلة حقيقية مفتوحة على أزمات دبلوماسية وقطع علاقات، فالعبارة منتقاة بعناية لتقول بعد أن أصبح العقل "حكرة" غربية بامتياز، إن المخيلة ـ وما أدراك ما المخيلة ـ بمحتواها المليء بالتوهمات والخرافات، هي التي أنزلت إلى شوارع العالم العربي ـ الإسلامي مئات الملايين من المسلمين دفاعاً عن نبي الإسلام (ص)!..‏

ومسألة أخرى: "ماهومي" و"ماهوميت"، هما اللفظتان اللتان استُخدمتا من دون أي صيغة تكريم على نطاق واسع في الملتقى للدلالة على "محمد" (ص)، من دون أن يفطن أحد للتنبيه الى أن إبعاد هاتين اللفظتين عن التداول في الجامعات ومراكز الأبحاث الغربية قد أصبح تقليداً فرضه الطلاب والأساتذة المسلمون منذ سنوات عديدة، لنفاجأ بهما يقتحمان الدوحة من بابها الواسع!‏

ومسألة أخيرة: لا ينبغي أن تتحول أزمة الرسوم إلى زوبعة في فنجان.. وإذا كانت الدول والهيئات أكثر دراية بالدفاع عن محمد (ص) بالوسطية والاعتدال وتقبيل اللحى، فإن من حق الجماهير المسلمة ومن واجبها أن تدافع عن محمد (ص) بوسائلها الخاصة: تفعيل المقاطعة عبر عهد يقطعه كل مسلم أمام ربّه بعدم التعامل تجارياً واستهلاكياً وثقافياً مع البلدان والجهات المسيئة، مع تشكيل لجان وروابط للمتابعة وتوسيع أطر المقاطعة.‏

عقيل الشيخ حسين‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1151 ـ 03/03/2006‏

2006-10-28