ارشيف من : 2005-2008
مدينة الصدر:من تهميش النظام السابق.. إلى الاستهداف الدموي

بغداد ـ "الانتقاد"
أكثر من سبعين شهيدا، وما يقارب المئتين وخمسين جريحاً، بعضهم أقرب إلى الموت منه إلى الحياة، سقطوا عصر يوم الأحد الماضي (12/03/2006) في مدينة الصدر شمال شرق العاصمة العراقية بغداد بانفجار سيارات مفخخة وصواريخ وقذائف في أكثر من مكان.
سوق مريدي الشعبي، وسوق الأولى الشعبي، ومنطقة الكيارة، كانت مسرحا لمشاهد دموية مؤلمة اختلطت فيها دماء وأشلاء الضحايا الأبرياء مع سلعهم وبضائعهم وحطام سياراتهم ومحالهم التجارية.
هذه المدينة الشعبية التي يربو عدد سكانها على المليون ونصف المليون شخص، أي ما يعادل ثلث سكان العاصمة بغداد، لم تلمس بعد ثلاثة اعوام من سقوط نظام صدام تغيرا ملموسا في أي جانب من الجوانب الحياتية، المعيشية، الخدمية والاقتصادية. ويبدو أن تلك المدينة التي دفعت ثمن معارضتها للنظام السابق وولائها لاهل البيت عليهم السلام، ما زال مطلوبا منها ان تدفع المزيد، ولعل مأساة يوم الاحد كانت مؤشرا واضحا على ذلك.
"الثورة" ثم "صدام" ثم "الصدر"
في عام 1958 وبعد سقوط النظام الملكي على أيدي مجموعة من الضباط الأحرار وتسلم الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم السلطة بادر الى توزيع الأراضي على العوائل الفقيرة والمعدمة وأصحاب الدخل المحدود، إلى جانب توفير التسهيلات لتلك العوائل من أجل بناء وتشييد المساكن، وبهذه الطريقة وجدت مدينة "الثورة" التي تمتاز من حيث تصميمها العمراني عن معظم مدن العراق بكونها مقسمة الى قطاعات متناسقة بأعداد بيوتها ومساحات تلك البيوت، ويبلغ عدد تلك القطاعات ثمانية وسبعين قطاعا.
ومن الواضح ان اختيار "الثورة" كاسم للمدينة الجديدة انطوى على دلالة سياسية واشارة الى ثورة الرابع عشر من تموز/ يوليو 1958.
وبحكم أسباب وعوامل مختلفة فإن معظم الذين سكنوا في مدينة الثورة ـ الصدر كانوا ينحدرون من المحافظات الجنوبية (الناصرية والعمارة والبصرة) وينتمون الى المذهب الشيعي، وما يمكن ان يلاحظه المرء ان ابناء المدينة ما زالوا حتى الآن يحافظون على عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم العشائرية والاجتماعية، الى جانب حرصهم على احياء الطقوس والمناسبات الدينية، لا سيما الشعائر الحسينية، وولائهم للمرجعية الدينية، وهذا الأمر يعكس توافر هذه المدينة على قدر جيد من الثقافة الدينية والوعي الديني ـ السياسي بطبيعة نظام حزب البعث الذي نجح بالوصول الى السلطة مرة اخرى في السابع عشر من تموز/ يوليو من عام 1968 بعد أن فشل في الاحتفاظ بها في تجربته الاولى عام 1963.
وهذا الوعي الديني ـ السياسي ترجم على ارض الواقع الى معارضة اتخذت اشكالا وصورا مختلفة دفعت النظام السابق الى انتهاج شتى الاساليب والوسائل التي من شأنها جعل تلك المدينة تبقى تئن تحت وطأة المزيد من الفقر والإهمال والجور والظلم في ذات الوقت الذي عمد فيه الى الغاء اسمها واستبداله باسم رئيس النظام "صدام"، وهكذا فإنها باتت تعرف بـ"مدينة صدام" وليس "مدينة الثورة"، ولكن من الناحية الواقعية بقي الاسم الأخير هو المهيمن والحاضر في ذاكرة الناس وأذهانهم، ولم يزاحمه أو ينتزع من رصيده إلا اسمها الآخر الذي منح لها بعد التاسع من نيسان/ ابريل 2003، أي بعد الاطاحة بنظام صدام، وهو "مدينة الصدر" تيمنا بالشهيد اية الله العظمى السيد محمد محمد صادق الصدر الذي اغتالته اجهزة النظام السابق مع اثنين من ابنائه (مصطفى ومؤمل) بمدينة النجف الأشرف في التاسع عشر من شباط/ فبراير 1999.
مدينة الصدر واستمرار المعاناة
ولعل أبناء تلك المدينة البائسة كانوا ينتظرون بفارغ الصبر أن يعود عليهم تحقق حلم سقوط نظام صدام بالخير والأمن والأمان والاستقرار، وتعويضهم عن عقود البؤس والفقر والحرمان، ولكن يبدو أن أمنياتهم وتطلعاتهم بقيت في خانة الاحلام، ولم تجد لها حيزا على ارض الواقع، اللهم إلا النزر اليسير، برغم ان الحضور السياسي لابناء المدينة كان فاعلا ومؤثرا في كل مراحل العملية السياسية في العراق، بدءا من الانتخابات الاولى في الثلاثين من كانون الثاني/ يناير 2005، مرورا بالاستفتاء الشعبي العام على الدستور الدائم في الخامس عشر من تشرين الاول/ اكتوبر من نفس العام، وانتهاء بالانتخابات العامة الاخيرة في الخامس عشر من كانون الاول/ ديسمبر الماضي.
ولكن تلك المدينة التي نزفت كثيرا من الدم طيلة عقود من الزمن ما زال مطلوباً منها ان تنزف المزيد، كما أنه مطلوب منها ان تتجلد بالصبر وتتحمل المزيد من البؤس والشقاء والحرمان، في ذات الوقت المطلوب منها فيه ان تكون حاضرة بفاعلية في مسرح الاحداث السياسي لان غيابها سيترك فراغا واضحا ربما يصعب ملؤه.
الاحد الدامي.. رسالة الارهابيين
ولا يمكن بأي حال من الاحوال القول ان عمليات يوم الاحد الماضي، او ما اطلق عليه بـ"الاحد الدامي" تأتي في سياق عمليات المقاومة المسلحة ضد الاحتلال لانها كانت بعيدة كل البعد من حيث معطياتها ونتائجها وميادينها عن شيء اسمه "المقاومة" أو أي شيء يمت الى تلك المفردة بصلة.
سوق "مريدي"، ذلك السوق الشعبي الكبير، يزدحم في أغلب الاوقات بمئات الباعة الجوالين والثابتين وآلاف المتبضعين من الناس الذين لم يعرف الترف يوما طريقه اليهم.
"لم يكن هناك اميركي واحد بينهم حينما انفجرت السيارات المفخخة فيه قبل موعد صلاتي المغرب والعشاء" هكذا يقول احد الذين كتب الله لهم عمرا آخر بعدما نجا بأعجوبة من موت محقق، ويضيف "واذا افترضنا ان قوات الجيش والشرطة هم من المتعاونين مع الاحتلال ويجوز قتلهم، فحتى هؤلاء لم يكن في السوق احد منهم.. بل كان في السوق الناس الكادحون الشرفاء المؤمنون".
ونفس الشيء مع سوق الاولى الشعبي، ومنطقة الكيارة التي سقطت فيها عدة قذائف اودت بحياة عدد من الناس ودمرت بيوتهم.
ويقول نعيم الكعبي رئيس المجلس البلدي لمدينة الصدر "ان هذا العمل الاجرامي الذي طال اتباع اهل البيت عليهم السلام في هذه المدينة الباسلة التي قدمت الكثير من الشهداء ابان حكم الطاغية صدام ، هذا العمل الاجرامي هو من فعل التكفيريين والزرقاويين ـ في اشارة الى اتباع الاردني ابو مصعب الزرقاوي ـ الذين يهدفون الى خلق فتنة طائفية بين ابناء الشعب العراقي الواحد".
السيد ماجد الموسوي (صحافي) يؤكد "ان سبب استهداف مدينة الصدر هو واضح جدا لان الارهابيين والتكفيريين تتركز مهمتهم في قتل الشيعة وترويعهم، واذا كان عملهم الارهابي بمدينة الصدر قد تأخر وقته فإن الارهابيين كانوا مشغولين بعمليات قتل وتهجير وضرب مقدسات الشيعة في مناطق اخرى، ويبدو انهم وضعوا "اجندة" لعمليات القتل، وقد جاء الدور لمدينة الصدر في هذا اليوم بالتحديد".
ويصف شاهد عيان، وهو السيد احمد الموسوي حول مشهد التفجيرات في سوق مريدي بالقول "كان السوق في وقت الغروب، وكما هو الحال في كل يوم كان مكتظا بأبناء المدينة، بحيث أن المرء يجد صعوبة بالغة في الحركة وسط حشود الناس، ولك ان تتصور ما الذي يمكن ان ينتج عن انفجار في مثل ذلك المكان وفي مثل ذلك الوقت.. بلا شك سيكون من الصعب جدا احصاء القتلى والجرحى، هذا اذا استطاع الذي يشاهد مثل ذلك المنظر المأساوي ان يستوعب الصدمة ويتصرف بحكمة وبعيدا عن المشاعر العاطفية والوجدانية التي من اليسير ان تنفلت من عقالها لدى بعض او معظم الناس".
تراجيديا متواصلة
وينقل احد الاشخاص قصة مؤلمة من الواقع المأساوي المتواصل لتلك المدينة المنكوبة حيث يقول: "جعفر وهو الوحيد لامه التي فقدت اخاها الوحيد في حملات الاعدام التي طالت الكثير من شباب المدينة في مطلع عقد الثمانينات بتهمة الانتماء الى الحركة الاسلامية والتخطيط لاسقاط النظام، وعادت لتفقد زوجها ـ ابا جعفر ـ خلال حرب الثماني سنوات التي شنها النظام السابق ضد الجارة ايران بعد انتصار الثورة الاسلامية فيها، ليبقى لها جعفر الى جانب ثلاث بنات، وبعد ان افنت زهرة شبابها في رعاية ابنائها الاربعة شبّ جعفر واتجه الى العمل في السوق ليساعد امه في تحمل اعباء الحياة، ووجد مكانا له في سوق مريدي، وقبيل وقوع الانفجار ببضع دقائق كان جعفر فرحا بما كسبه في ذلك اليوم من مال، وكان يردد لصديقه وهو يجمع اغراضه "سأشتري لامي ثوبا جديدا لتستبدل به ثوبها الاسود".. ولكن قبل ان يتم جعفر جمع اغراضه كان الناس يلملمون اشلاءه، ليكون قدر امه وقدر عشرات الامهات في مدينة الصدر ومدن عراقية اخرى غيرها ان يبقين متشحات بالسواد ما دام هناك من داخل البلد ومن خارجه من لا مشروع له الا القتل والتخريب والتدمير، واستهداف كل المقدسات، ولا فرق لديه أياً كانت عناوينها ومسمياتها ومضامينها.
الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1153 ـ 17 آذار/مارس 2006