ارشيف من : 2005-2008
بوش في آسيا الجنوبية: رهانات فاشلة

في أفغانستان حيث وصل سراً، وعد الرئيس الأميركي جورج بوش بتقديم الإرهابيين إلى المحاكمة بعد الكشف عن الأماكن التي يختبئون فيها.
وفي باكستان التي وصل إليها تحت جنح الظلام في طائرة أسدلت على نوافذها ستائر كثيفة قبل أن تحط في مطار أطفئت فيه الأنوار لاعتبارات أمنية، قال بوش ما معناه: إنه قد جاء للتأكد من عزم الجنرال مشرف على المضي قدماً في الحرب على الإرهاب.
ثم انتهت الزيارة بالثناء على شجاعة مشرف الذي انقلب، حسب تعبير بوش، من داعم لطالبان إلى عدو لطالبان، متناسياً بالطبع أي إشارة إلى الجهة التي كانت وراء الدعم ثم وراء العداوة. وانتهت الزيارة بعد نقاش حول "التعاون الحيوي" في الحرب على الإرهاب وحول الجهود الأميركية من أجل التنمية الاقتصادية والسياسية الهادفة إلى "تقليص جاذبية الإسلام المتشدد".
والمعلوم أن زيارة بوش لأفغانستان جاءت في وقت تتصاعد فيه أعمال المقاومة حتى داخل السجون، كما أن زيارته لباكستان جاءت في وقت تعيش فيه البلاد حالة من التوتر الشديد في أجواء القمع ومنع التظاهر والمعارك المحتدمة بين القوات الباكستانية ورجال القبائل في المناطق المتاخمة لأفغانستان.
وبرغم القمع والمنع، جاء تفجير القنصلية الأميركية في كاراتشي ومقتل أحد الدبلوماسيين الأميركيين معبراً عن مواقف باكستان العميقة من زيارة بوش. كما جاء معبراً عن الموقف نفسه، خروج المظاهرات التي هتفت بموت بوش ومشرف وبمطالبة بوش بالخروج من باكستان. ثم خرج بوش تاركاً وراءه بلداً يغلي بالعداء لأميركا وللسلطة القائمة التي لم تحصل من بوش برغم خدماتها "الجليلة"، على مكافأة شبيهة بتلك التي حصلت عليها الهند بلا يد أو سابقة.
وبين أفغانستان وباكستان حط بوش رحاله في الهند حيث استقبل بحفاوة رسمية وباستنكار شعبي في ظل 117 ألف رجل أمن حُشدوا لحراسته. وجرى توقيع "الاتفاق النووي" التاريخي حسب تعبير بوش مقابل وعد بسماح الهند الخارجة على القانون الدولي في المجال النووي، بالسماح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بمراقبة منشآتها النووية المدنية. وبالطبع فإن التعاون مع الهند ثاني العملاقين الآسيويين نوويا وديموغرافيا، وذات السياسة التقليدية غير المنحازة إلى أميركا، يشكل رهاناً مغرياً لرئيس أميركي سجلت أميركا في ظل ولايته إخفاقات مفتوحة على المزيد من الإخفاقات.
والإغراء يستحق المقامرة حتى بسياسة واشنطن في مجال حظر الانتشار النووي التي تعادي باسمها المسعى الإيراني النووي السلمي. وقد وعد بوش بإقناع الكونغرس بوجاهة المقامرة، ربما لجهة الدفع باتجاه التوازن بين الهند والصين، مع أن هذا المسلك قد ينفرج عن توتر صيني أميركي جديد بعد التوتر القائم حول تايوان. وربما على الأرجح وبشكل أكثر إلحاحاً، لجهة الإخلال الاستباقي بالتفاهم الهندي الباكستاني الصعب، الذي سيعود عاجلاً أو آجلاً إلى سابق عهد الدولتين المتخاصمتين في حروب لا تهدأ إلا لتتجدد منذ العام 1949.
فالحرب على الإرهاب قد تنفتق في باكستان تحديداً عن حرب حقيقية على الإرهاب الأميركي في ظل اهتزاز نظام مشرف بسبب تحالفه مع الأميركيين وقمعه تظاهرات الاحتجاج على الرسوم المسيئة. فما الذي قد يحصل فيما لو سقط نظام مشرف تحت ضربات الإسلاميين المتشددين كما يصفهم بوش؟
على الأرجح إمارة إسلامية تضم باكستان وأفغانستان من شأنها في ظل فوز حماس مثلاً أو الإخوان في مصر، أن تمد جسوراً للتعاون مع إيران والعراق وسوريا ولبنان والسلطة الفلسطينية، مع تحالفات أخرى ذات وزن تمتد من الصين إلى روسيا وتنتهي في أميركا اللاتينية.
أغلب الظن أن رهان بوش على الهند يصب في عكس هذا المجرى، وهو مجرى من شأنه فيما يتعدى الخلافات الباكستانية ـ الهندية، أن يجعل من آسيا كلها مسرحاً لشيء غير الفوضى البناءة.
لكن رهان بوش هذا قد يأتي شبيهاً بجميع رهاناته السابقة التي انقلب فيها السحر على الساحر، لأن الهند أيضاً يمكنها أن تكون غداً شيئاً آخر مختلفاً تماماً عما يريده بوش، شأنها في ذلك شأن غيرها من البلدان التي ترسم اليوم مرحلة حقيقية للتحرر بعد التحرر الفاشل الذي عاشه العالم الثالث طيلة خمسين عاماً في ظل تلاعبات بوش وأتباعه.
ع.ح.
الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1152 ـ 10 آذار/مارس2006