ارشيف من : 2005-2008

الإدارة الأميركية ولعبة الاستثمار في الحقيقة

الإدارة الأميركية ولعبة الاستثمار في الحقيقة

من الواضح أن الرئيس الأميركي جورج بوش يعاني من إحساس واضح بالوحشة: أمام المنزلقات التي زجّه فيها وهم تتويج التاريخ بإقامة الامبراطورية الأميركية، ينقب الرئيس بوش في الماضي عن كل ما يمكن أن يبعد عن مخيلته شبح الرئيس الفاشل. سبق له أن قدم نفسه في حربه على الإرهاب، كشبيه لريغان في "انتصاره" أواخر الثمانينيات على الشيوعية، وها هو الآن يستثمر زيارته للهند ليبدو شبيها بريتشارد نيكسون يوم زار بكين وموسكو عام 1972، في أول مبادرة للوفاق والتبادل التجاري والحد من الانتشار النووي.‏

لكن هذه التماهيات تثير السخرية.. أولاً لأن بوش اعترف في نيودلهي وإسلام آباد بأن الحرب على الإرهاب لا تزال طويلة، ما يعنى أن مدة ولايته المتبقية إذا استمرت حتى نهايتها الدستورية، لن تفعل غير إضافة المزيد من الإخفاقات والفضائح التي قد تضعه لا في مصاف نيكسون العام 1972، بل في مصاف نيكسون العام 1974، نيكسون الذي انتهى مدحوراً ومنبوذاً تحت ثقل فضيحة "ووتر غيت".‏

وللمناسبة نشرت "واشنطن بوست" مؤخراً رسماً كاريكاتورياً يمثل الرئيس بوش المدحور في العراق، على شكل "منبوذ" يتسول في شوارع نيودلهي، بينما تمر به "الفيلة" (الفيل رمز الحزب الجمهوري) دون أن تعيره انتباهاً.. في إشارة لاذعة إلى إحساس الجمهوريين بأن بوش قد أصبح عالة عليهم، وبأن وجوده كرئيس سيكون حجة ثقيلة ضدهم في مواجهة الديمقراطيين في الانتخابات التشريعية في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، تلك الانتخابات التي قد تسفر عن ولايات متحدة برئيس جمهوري مترنح وكونغرس ديمقراطي متوثب.‏

وضع مثير لهواجس الجمهوريين في وقت تبدو فيه الولايات المتحدة من الآن منقسمة على ذاتها حتى بين الرئيس الجمهوري و"خصمه" الكونغرس الجمهوري! إذ توازياً مع تصاعد المواجهة بين الكونغرس والرئيس حول صفقة تشغيل الموانئ الأميركية من قبل شركة إماراتية في ظل تهديدات هذا الأخير باستعمال حق الفيتو، ولدت مواجهة جديدة حول صفقة التعاون النووي الأميركي مع الهند.‏

وإذا كان بوش قد بشّر من نيودلهي بأنه سيعمل على إقناع الكونغرس بوجاهة الصفقة، فإن لغة الفيتو قد تكون هي أيضاً وسيلة الإقناع الوحيدة في وضع لا يمكن للهيئة التشريعية الأميركية أن تستمر فيه إلى ما لا نهاية وعلى رؤوس الأشهاد، بشرعنة ازدواجية المعايير ونقض الاتفاقيات الدولية.‏

فالحقيقة أن حبال البهلوانية قد تقطعت فعلاً ولم يعد بمقدورها أن تحمل في وقت واحد ـ إذا ما اقتصرنا على المثالين الإيراني والهندي ـ خيارين أميركيين متناقضين حول ملف نووي إيراني "شرعي"، إذ وقعت طهران على اتفاقية حظر الانتشار النووي، وملف نووي هندي غير شرعي، حيث لم توقع نيودلهي على تلك الاتفاقية.. ناهيكم عن امتلاك نيودلهي "اللاشرعي" السلاح النووي وتحريم طهران "الشرعي" للعمل على امتلاك هذا السلاح.. وناهيكم أيضاً عن الخرق الفاضح من قبل الرئيس بوش، من خلال توقيع اتفاقه النووي "التاريخي" مع رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ، لالتزامات واشنطن في مجال حظر الانتشار.‏

وسواء تعلق الأمر بالملف النووي أو بغيره من الملفات ذات الصلة بالشرعية الدولية، فإن بيل كيلر رئيس تحرير "نيويورك تايمز" قد شهد ـ وهو شاهد من أهلها ـ بأن الإدارة الأميركية تعلن الحرب على القيم التي تشجعها الولايات المتحدة.‏

ولا ينتقص من قيمة هذه الشهادة كتعبير عن لا أخلاقية الإدارة الأميركية في سياساتها الخارجية، أنها سيقت في إطار الحرب التي تشنها الإدارة الأميركية على القيم الأميركية الداخلية، من خلال ملاحقة الصحافيين الأميركيين لأنهم يكشفون عن حقائق تخفيها إدارتهم في وقت تريد فيه هذه الإدارة لنفسها أن تكون عراب الشفافية الديمقراطية في العالم.‏

وفي هذا المجال أصبحت العلاقات المتوترة أصلاً بين البيت الأبيض والصحافة الأميركية أكثر توتراً مع استجواب صحافيين يعملون في صحيفة "ساكرامنتو بي" لأنها نشرت في تموز/ يوليو الماضي معلومات حول وثائق عدلية على صلة بملف إرهابي. الملف المذكور بقي طي الكتمان، والكتمان نفسه يطوي ـ من تفجيرات 11 أيلول/ سبتمبر إلى غيرها من التفجيرات "التسونامية" ـ ملفات كثيرة من النوع الذي ترتع فيه الحقائق التي تخفيها الإدارة الأميركية خلف افتراءات تغطي بها سياسة العدوان والهيمنة.‏

إن الاستثمار في الحقيقة الذي يحترفه المحافظون الجدد وامتداداتهم خارج الولايات المتحدة، قد أصبح من الأمور البديهية التي يعرفها الجميع، على الأقل منذ أكذوبة أسلحة الدمار الشامل العراقية. وهذه الأكذوبة هي حلقة في حبل إخفاء الحقائق الذي لا يفعل غير تأكيد وجوده هجوم الإدارة الأميركية الحالي على ما يسمى بالتسريبات، والمقصود بالتسريبات هو تلك المعلومات "الحقيقية" التي تخرج من طي الكتمان بين حين وآخر حول قضايا من نوع الابتزاز في فضيحة اليورانيوم النيجري، وفضيحة الحرب على العراق التي تحولت من نزهة لنشر الديمقراطية وفقاً لأكاذيب الإدارة الأميركية، إلى محرقة حقيقية، وصولاً إلى فضيحة السجون السرية وفضائح "غوانتانامو" و"أبو غريب"، وأخيراً لا آخراً فضيحة التنصت "الرسمي" المخالف للقوانين الأميركية.‏

وبالطبع، فإن بوش العائد من آسيا الجنوبية حيث عمل ـ على حد قوله ـ مع قادة البلدان التي زارها، من أجل تأمين السلم والازدهار للأجيال القادمة، لن يقابل بالحفاوة التي قابله بها قادة أفغانستان وباكستان والهند، بل بملفات صدامية كلها تتمحور حول لعبة بوش المفضلة، لعبة الحقيقة التي كانت آخر ارتداداتها المؤلمة على الإدارة الأميركية بث قنوات التلفزة الأميركية الأسبوع الماضي، شريط فيديو يظهر فيه الرئيس الأميركي وهو يقول للأميركيين قبل يوم واحد من إعصار كاترينا، إن إدارته مستعدة تماماً لمواجهة الإعصار الذي دمر في اليوم التالي منطقة أميركية تزيد مساحتها خمسين مرة عن مساحة لبنان.‏

كل ذلك ينتظر بوش العائد من رحلة "تسول" غير ناجحة في آسيا الجنوبية، ويبشره في ظل هبوط شعبيته إلى منسوب شديد التدني بمصير يبدو أنه سيكون أكثر شناعة من مصير ريتشارد نيكسون.‏

عقيل الشيخ حسين‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1152 ـ 10 آذار/مارس2006‏

2006-10-28