ارشيف من : 2005-2008
فرنسا: أزمة اجتماعية عميقة ومزمنة

في مسعى يهدف إلى التخفيف من حدة البطالة التي تبلغ أرقامها نحو عشرين في المئة من الأيدي العاملة الشابة في فرنسا، تبنى رئيس الوزراء الفرنسي دومينيك دو فيلبان ما سُمي بـ"قانون تكافؤ الفرص" المتضمن بنداً يسمح تحت اسم عقد التوظيف الأول، باستخدام من هم دون سن السادسة والعشرين من العمر وتسريحهم من العمل دون مبرر قانوني. وبعد تصويت البرلمان على القانون المذكور الذي كان لا يزال ينتظر مصادقة رئيس الجمهورية عليه، انفجر الغضب الطلابي في الحي اللاتيني بباريس على ذلك القانون، ووصل الأمر إلى حد الاشتباك مع قوى الأمن ووقوع جرحى واعتقالات وخسائر في الممتلكات العامة. لكن رئيس الحكومة دومينيك دو فيلبان، تحدث عن "عدم الفهم"، واعتبر أن من الضروري إفساح المجال أمام قانون العمل ذاك لإثبات جدارته، وصولاً إلى إعلان تمسكه به،مؤكداً أنه سينجح وسيخلق فرص عمل جديدة.
لكن طريقة رئيس الوزراء في التعامل مع المشكلة وتأكيداته المتفائلة لم تَرُقِ الطلاب الفرنسيين بوصفهم باحثين في المستقبل القريب عن عمل تتضاءل فرص الحصول عليه، في ظل الركود الاقتصادي الحالي وجمود أرقام النمو وتفاقم البطالة في فرنسا وغيرها من بلدان الاتحاد الأوروبي. كما لم تَرُق أيضاً العمالَ والموظفين الفرنسيين الذين خرجوا مع الطلاب في تظاهرات جمعت أكثر من مليون ونصف مليون شخص في مختلف المناطق الفرنسية تحت شعار أساسي هو سحب القانون المذكور من التداول، إضافة إلى شعارات أخرى طالت الرئيس شيراك وتحدثت عن "انتهاء مدته". النقابات الكبرى "القوة العمالية" التي يسيطر عليها الاشتراكيون و"الاتحاد العام للعمال" الذي يسيطر عليه الشيوعيون، حمّلت الرئيس شيراك والحكومة كامل المسؤولية عن التوترات الاجتماعية، ووجهت إنذاراً هددت فيه بالإضراب العام إذا لم يُسحب القانون خلال 48 ساعة. وقد اجتمع ليل الأحد/ الاثنين 450 مندوباً طلابياً في مدينة ديجون وأصدروا نداءً دعوا فيه إلى الإضراب حتى سحب القانون.. كما دعوا إلى تظاهرة مركزية في باريس قبل نهاية الأسبوع الحالي. ومع ذلك ظل دو فيلبان على موقفه، في وقت وجه فيه الأمين الأول للحزب الاشتراكي فرنسوا هولاند نقداً مباشراً إلى الرئيس شيراك لأنه لم يتوجه بأي كلام إلى الفرنسيين حول الموضوع. والحق يقال، إن فرنسوا هولاند الذي لم يكن يطمع بأكثر من أن "يحط على عين شيراك"، قد حصل من شيراك بالذات على مدد غير منتظر وقابل للتوظيف الانتخابي السمين عندما انبرى هذا الأخير بعد كلام هولاند، إلى توجيه كلام للفرنسيين حول الموضوع! وكتعبير أكيد عن غياب الحكمة الذي تحدث عنه هولاند عندما نادى بخطورة إغراق فرنسا في بحر الإضرابات، جاء كلام شيراك بعيداً عن الحسم والحزم حيث اكتفى بدعوة الفرنسيين إلى التفاوض، في وقت يبدو فيه أن أطراف النزاع يشحذون أسلحتهم للمعركة. ففي مقابل التهديد بالإضراب من قبل الطلاب والعمال وقوى اليسار، جاءت تصريحات رموز اليمين الحاكم لتشدد على رفض الشارع كهيئة لتغيير قوانين أقرها البرلمان، وعلى اعتبار توجيه الإنذارات لـ"الدولة" إساءة للجمهورية وللديمقراطية. ومختصر الكلام أن اليمين الحاكم قد أنزل إلى الساحة كل الرموز الكبرى التي تستند إليها شرعية الحكم في فرنسا. وإذا أخذنا في الاعتبار أن 71 في المئة من الفرنسيين يعتقدون أن ما يجري حالياً في فرنسا إنما يعكس أزمة اجتماعية عميقة ومزمنة قد تتكشف أبعادها في الأسابيع القادمة، يصبح القول ممكناً بأن فرنسا التي فاجأت العالم وقهرت شيراك بالتصويت السلبي على الدستور الأوروبي، من شأنها أن تصنع مفاجآت أكبر.
الانتقاد/مقالات ـ العدد 1154 ـ 24 آذار/مارس 2006