ارشيف من : 2005-2008

النصر! أكذوبة جديدة للرئيس بوش..

النصر! أكذوبة جديدة للرئيس بوش..

في الذكرى الثالثة للحرب على العراق خرجت تظاهرات إدانة الحرب والمطالبة بوقفها في عواصم ومدن أوروبا والولايات المتحدة وبلدان أخرى كأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا وباكستان ومصر. وبرزت شعارات أكثر خصوصية كما في تظاهرة مدريد التي شارك فيها ثلاثون منظمة اجتماعية وسياسية اتهمت حكومة ثاباتيرو بمواصلة التواطؤ مع استراتيجية الحرب الأميركية، حتى بعد الانسحاب من التحالف الذي تقوده واشنطن في العراق، وطالبت بسحب القوات الإسبانية من أفغانستان وهاييتي. وكما في مدريد هتف المتظاهرون الذين خرجوا في بروكسل بهتافات معادية للولايات المتحدة وللحلف الأطلسي. أما في لندن التي شهدت أضخم تظاهرات الاحتجاج، فكان التركيز واضحاً على إدانة سياسة طوني بلير والمطالبة بسحب الجنود البريطانيين من الأتون العراقي. ومن واشنطن ونيويورك إلى لوس أنجلس مروراً بشيكاغو، طالب مئات الألوف من المتظاهرين بسحب القوات الأميركية من العراق، وتوجهوا بالإدانة إلى سياسات الرئيس بوش في وقت كان يتحدث بوش بالمناسبة نفسها عن تطبيق استراتيجية أميركية ستقود إلى النصر في العراق، وستؤمن مستقبلاً أفضل لأجياله الصاعدة.‏

هذه العبارة استوقفت العديد من المراقبين الذين أفاضوا في استعراض الأكاذيب والأخطاء والفضائح التي رافقت الحرب التي أعلنها الرئيس بوش على الإرهاب في أعقاب تفجيرات 11 أيلول/ سبتمبر 2001. لكن ما يبدو لافتاً بشكل خاص بعد كذبة أسلحة الدمار الشامل، أن منتجي الكذبة يواصلون النهج ذاته من دون أن يرف لهم جفن: بعد ثلاث سنوات من حرب كان الرئيس بوش قد قدمها للعالم كنزهة تحرير بين باقات الزهور وأهازيج الفرح، يشيح الرئيس بوش بوجهه عن الواقع الذي وصل إليه العراق والعالم بأسره بفعل سياسات التدخل الأميركية، ليعلن ـ على طريقة المشعوذين والكهان ـ أنه يمسك سراً استراتيجياً سيقوده إلى النصر! هل يعني ذلك أن على العراقيين أن يواصلوا سنوات أخرى تحمل ما يتحملونه من مجازر يومية ليجدوا أنفسهم مجدداً أمام أكذوبة العراق النموذجي الذي كان يقال إن الولايات المتحدة ستعيد إعماره على غرار ألمانيا واليابان؟!‏

وإذا ما تركنا العراق والمنطقة جانباً ونظرنا في المشهد الأميركي المحيط بالرئيس بوش، لوجدنا أن كل شيء ممكن بالنسبة للرئيس بوش إلا التفاؤل.. فالعلاقات بالجار الكندي تنتقل من سيئ إلى أسوأ، وما هي إلا أسابيع قليلة حتى تنضم المكسيك الواقعة على الخاصرة الجنوبية للولايات المتحدة إلى قائمة البلدان اليسارية في أميركا اللاتينية. وميزان السجال الناشب بين بوش والفنزويلي هيغو شافيز يميل بشكل واضح لمصلحة الأخير بعد أن رشق بوش بسلسلة تهم مشينة جداً، ليس أقلها اتهامه بالجبن لأنه يحارب في العراق عبر إصدار الأوامر عن بعد، ولا يجرؤ على قيادة العمليات مباشرة فوق أرض المعركة. والحقيقة أن كلام شافيز لا يجافي الواقع، خصوصاً إذا ما لاحظنا السرية التامّة التي ينفذ من خلالها الرئيس بوش وغيره من المسؤولين الغربيين زياراتهم الخاطفة للعراق وأفغانستان، والمدججة بالإجراءات الأمنية حتى في بلدان أخرى ليست فيها حروب أميركية معلنة. وبالطبع فإن الأعاصير التي تهب داخل الولايات المتحدة ليست الأقل خطورة على الرئيس بوش وإدارته. شعبية متضائلة، مسؤولون تحوم حولهم الفضائح وتتهددهم الاستقالات والإقالات، تناقضات صارخة بين خطاب الديمقراطية وواقع الحكم الذي تتساقط عنه الطلاءات ليظهر جوهره البوليسي الاستبدادي، وعمليات نهب واسعة النطاق يتعرض لها دافع الضرائب الأميركي باسم الحرب على الإرهاب، إضافة إلى ضريبة الدم مع صفوف التوابيت العائدة "إلى الديار" بشكل يبعث على كل شيء.. عدا التفاؤل.‏

وإذا ما وضعنا جانباً كل التحليلات المعمقة التي تتحدث عن أزمة الضمير وحالة الانطواء التاريخي التي سرعان ما قد تستولي على أميركا، فإننا لا نستطيع إلا أن نلاحظ تلك الظاهرة المتمثلة بالانقسام غير المسبوق في المجتمع الأميركي. أولاً حول سياسات بوش وقصص المحافظين الجدد وحالة الهوس الخرافي الذي يزجون فيه الولايات المتحدة والعالم على وقع التبشير بعدمية الوجود ونهاية التاريخ، ولكن بصيغة أخرى غير تلك التي طلع بها فوكوياما. وإذا كان بعض الممثلين الجمهوريين والديمقراطيين قد شكلوا الأسبوع الماضي فريق عمل لوضع سياسة بديلة في العراق بهدف جمع الأميركيين، فإن ذلك يعني أن الانقسام الأميركي بات يتجاوز الانقسام التقليدي بين الجمهوريين والديمقراطيين، بدليل أن هؤلاء يجتمعون لتفادي انقسام أكبر، أو ربما انقسامات أكبر: في السابق تطاحن الأميركيون في حربهم الأهلية بين شمال وجنوب، وفي الراهن تتراقص في أجواء الولايات المتحدة أشباح البروتستانتية والكاثوليكية على إيقاعات التمايزات العرقية بين اللاتينوس والإنجلوسكسون.. الإعصار كاترينا أعاد تفجير المشكلة السوداء.. ولا شك في أن عمق المجتمع الأميركي يعج بمشاكل أخرى مفتوحة على الانقسامات والتصدعات، وأن سياسات بوش وفريقه تقود أميركا إلى أوضاع بعيدة عن النصر الذي لا يزال الرئيس بوش يتكلم عنه في عارض هذياني قد يجدر بالأميركيين أن يتداركوه بتدخل وقائي أو استباقي قبل أن يصل بوش والمحافظون الجدد بأميركا والعالم إلى السنة السابعة، وحالة الدمار الشامل التي يبشرون بها منذ صعودهم إلى الحكم قبل ست سنوات.‏

الانتقاد/ مقالات ـ العدد 1154 ـ 24 آذار/مارس 2006‏

2006-10-28